إنَّ تحقيق الإصلاح في العراق يحتاج إلى إرادة سياسية من النخبة، ويمكن تعزيز هذه الإرادة عبر تعاون شبكي بين المجتمع المدني والفاعلين الإصلاحيين داخل النظام؛ لخلق ضغط فعّال من أجل التغيير. فمن دون اجراء إصلاح هيكلي، تبقى الانتخابات في العراق مجرد منافسة نخبوية، ولن تحقق مساءلة المواطنين، لذا فالإصلاح هو السبيل لإعادة بناء الثقة والديمقراطية الحقيقية
الكاتب: ريناد منصور، نقلا عن: chathamhouse
ترجمة: هبــه عباس محمد علي
مراجعة: ميثاق مناحي العيسى
مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
تشرين الأول-أكتوبر 2025
من المقرر إجراء الانتخابات البرلمانية في العراق في 11 نوفمبر 2025، لكن الحماس الشعبي ضعيف، إذ فقد كثير من العراقيين الثقة بقدرة الانتخابات على تحقيق التغيير بعد عشرين عاماً من الديمقراطية التي أعقبت التغيير الذي قادته الولايات المتحدة. من المتوقع أن يفوز رئيس الوزراء محمد شياع السوداني وتحالفه بالانتخابات، مع بقاء الإطار التنسيقي الشيعي في السلطة عبر حكومة توافقية تضم الكتل الكردية والسنية. وعلى الرغم من توقع فوز قائمة السوداني، لكن يُستبعد بقاؤه رئيساً للوزراء؛ لأن المنصب يُحسم عبر مفاوضات ما بعد الانتخابات. ورغم وضوح النتائج مسبقاً، تشهد الانتخابات تنافساً شديداً يعتمد على الإنفاق المالي وشراء الأصوات أكثر من الشعبية، وكما أقرّ رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، فإن الانتخابات “لن تعتمد أساساً على الشعبية، بل على الإنفاق المالي وشراء الأصوات.
تُعد الانتخابات في العراق وسيلة لإعادة توزيع المناصب بين النخب الحزبية أكثر من كونها تقييماً لأداء الحكومة، إذ تُستخدم نتائجها للتفاوض على المناصب عبر أدوات تشمل العنف والتعبئة الشعبية. وتُمثّل هذه المساومات اختباراً لاستقرار البلاد القائم على توازن هش بين النخب، قد ينهار إذا اختلّت التفاهمات أو تصاعدت الصراعات.
كيف تتُطبق الديمقراطية في العراق ؟
يقوم النظام الديمقراطي في العراق، وفق دستور 2005، على برلمان منتخب يضم 329 عضواً يتم انتخابهم كل أربع سنوات . يختار البرلمان رئيس الجمهورية الذي يكلّف مرشح الكتلة الأكبر بتشكيل الحكومة، وهي عملية معقدة تقوم على التحالفات والمساومات. وعلى الرغم من غياب الطائفية في النص الدستوري، يبقى النظام متأثراً بالتقسيمات الطائفية والعرقية بعد عام ٢٠٠٣. أصبحت السياسة في العراق مرتبطة بالهوية الطائفية والعرقية، اذ يصوّت الشيعة لأحزابهم، والسنة لأحزابهم، والأكراد لمجموعاتهم الخاصة. وبموجب اتفاق غير رسمي منذ 2005، يُخصص منصب رئيس الوزراء للشيعة، ورئيس الجمهورية للأكراد، ورئيس البرلمان للعرب السنة.
من يتنافس في انتخابات العراق؟
قبل عشرين عامًا، كانت الانتخابات العراقية محدودة بعدد قليل من التحالفات الكبرى تشمل الشيعة (التحالف العراقي الموحد) الذي حظي بتأييد المرجعية الدينية والكرد والسنة والعلمانيين. اما اليوم، تحولت تلك الكتل الموحدة إلى مشهد سياسي متفرّع يضم 31 تحالفًا، و38 حزبًا، و75 مرشحًا مستقلًا في انتخابات 2025.
من التحالف العراقي الموحد (UIA) ظهرت الآن العديد من الفصائل الشيعية المتنافسة، وتشمل تحالف إعادة الإعمار والتنمية بقيادة رئيس الوزراء السوداني، دولة القانون بقيادة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي ،الصادقون بقيادة قيس الخزعلي ،بدر بقيادة هادي العامري، تحالف القوات الوطنية بقيادة عمار الحكيم، ولدى بعض هذه الجماعات، بدرجات متفاوتة، روابط تاريخية وسياسية مع إيران. الأحزاب الشيعية الآن منقسمة ضمن الاطار التنسيقي (SCF) الذي من المتوقع أن يتوحد بعد الانتخابات، في حين يقاطع مقتدى الصدر الانتخابات. الأكراد يخوضون الانتخابات من خلال أحزاب منفصلة مثل KDP وPUK وحركات أصغر، بينما ظهرت عدة أحزاب سنية جديدة أبرزها تقدم، السيادة، وتحالف عزم.
كيف يتم الفوز بالأصوات في العراق: تعبئة القلة
على الرغم من حرية التصويت نظريًا، لكن يعتمد كثير من العراقيين عمليًا على شبكات الرعاية والحوافز المالية عند التصويت، ما يجعل الانتخابات تبدو زبائنية وفاسدة. اما تاريخيًا، فقد اعتمد السياسيون على سياسات الهوية والولاءات الطائفية والعرقية لحشد الدعم، بينما ظهرت مؤخرًا حركات احتجاجية تطالب بالإصلاح المدني وإنهاء النظام الطائفي. في انتخابات 2025، يهيمن على المشهد استخدام السياسيين لمناصبهم وأموالهم لكسب الأصوات، مع انخفاض المشاركة العامة. وصفت هذه الانتخابات بأنها «انتخابات المليارديرات»، إذ تحوّل النخبة الاستثمار في السياسة إلى وسيلة لزيادة النفوذ والوصول إلى الموارد الحكومية، ولاسيما مع توجيه الأثرياء أموالهم نحو المشاريع المحلية؛ بسبب القيود المصرفية الأمريكية. غالبا ما يستخدم رئيس الوزراء سلطته لتعيين موظفين وزيادة الرواتب لضمان الأصوات، بينما يصوت العسكريون وموظفو الحشد الشعبي والبيشمركة في أيام خاصة، تحت مراقبة القادة للتصويت للأحزاب الداعمة لهم. كما تعتمد الأحزاب على شبكات الولاء العائلي والقبلي، إذ تكسب الدعم عبر الهدايا والمكافآت لضمان ولاء العائلات بالكامل. فيما تقدم الأحزاب الخدمات كوسيلة لكسب الأصوات، إذ يقدم السياسيون خدمات أساسية للمجتمعات المحرومة لتأمين الولاء عند صناديق الاقتراع.
ظهرت أساليب شراء الأصوات بوضوح في استعدادات انتخابات 2025: اذ نشأت سوق سوداء لبيع بطاقات الناخبين البايومترية بحوالي 100 دولار للواحدة، ويتلقى الناخبون عادة نصف الثمن مقدمًا والنصف عند الاقتراع مقابل التصويت وفق اتفاق مسبق أو الامتناع عن التصويت. يستعين السياسيون في العراق بوسائل التواصل الاجتماعي لدفع المؤثرين للترويج لهم أو تشويه منافسيهم، مع ارتفاع أسعار هذه الخدمات في انتخابات 2025، إذ يمكن أن يحقق منشور واحد من حساب مشهور عدة آلاف من الدولارات.
لماذا انخفض الاقبال على الانتخابات؟
منذ المشاركة المرتفعة التي قاربت 80٪ في ديسمبر 2005، شهدت نسبة المشاركة في العراق تراجعًا مستمرًا. ويعكس ذلك شكوكًا واسعة الانتشار حول قدرة التصويت على تغيير من يحكم أو طريقة حكمهم. غالبًا ما تبالغ الأرقام الرسمية للمشاركة في العراق في تقدير مستوى التفاعل الشعبي. ويرجع ذلك إلى أن النسبة تُحسب بناءً على عدد الناخبين مقارنةً بعدد المسجلين أو من قاموا بتحديث تسجيلهم الانتخابي، وليس على إجمالي السكان البالغين سن التصويت، والعديد منهم يختار عدم التسجيل. ففي عام 2025، من بين نحو 30 مليون ناخب مؤهل، سجل حوالي 21 مليون فقط، ما يعني أن نسب المشاركة الرسمية تستبعد ثلث الناخبين من الحساب.
يشعر كثير من العراقيين بأن النظام السياسي لا يمثلهم، ولا يستجيب لمطالبهم، فبعد عشرين عامًا من الانتخابات ووعود الإصلاح، تظل حياتهم اليومية مليئة بالمعاناة والإهمال، ويبقى العراق رغم ثروته النفطية من أكثر الدول فسادًا وضعفًا في تقديم الخدمات. ستساهم حملة المقاطعة التي يقودها الصدر في انخفاض نسبة المشاركة. اذ فازت حركته بأكبر عدد من المقاعد – 73 من أصل 329 – في انتخابات 2021، لكنها انسحبت بشكل مفاجئ من البرلمان بعد فشلها في تشكيل حكومة أغلبية في آب 2022. منع الصدر أتباعه من دعم مرشحين آخرين وفصل من خالف ذلك، ليبرز نفسه خارج النظام السياسي ويدعي الابتعاد عن انتخابات يتوقع أن تكون المشاركة فيها منخفضة.
ماذا يحدث بعد الانتخابات: كيف يعمل تشكيل الحكومة العراقية؟
نظريًا، يحدد دستور العراق جدولًا زمنيًا واضحًا لتشكيل الحكومة بعد الانتخابات. عمليًا، تصبح كل خطوة فرصة للكتل السياسية للحصول على تنازلات، وتبادل المناصب، وتعزيز الاتفاق النخبوي الذي يقوم عليه النظام نفسه. منذ عام 2005، بلغ متوسط الفترة بين التصويت وتشكيل الحكومة حوالي 224 يومًا. ويتم تخصيص المناصب الوزارية والمناصب العليا وفقًا لـ “نظام نقاط” غير رسمي، يتم تعديله بناءً على عدد المقاعد التي يحصل عليها كل حزب.
تبدأ المفاوضات تقريبًا فورًا بعد أن تصادق المحكمة الاتحادية العليا على نتائج الانتخابات، عقب حل النزاعات المتعلقة بالتصويت. وخلال 15 يومًا من المصادقة، يجب على الرئيس المؤقت دعوة البرلمان المنتخب حديثًا للانعقاد. الجلسة البرلمانية الأولى، التي يترأسها العضو الأكبر سنًا، تهدف إلى انتخاب رئيس البرلمان ونائبين بالأغلبية المطلقة. ومع ذلك، عمليًا غالبًا ما تصبح هذه اللحظة أول ساحة للتفاوض السياسي. إذ تؤخر الأحزاب التصويت وتبقي الجلسة “مفتوحة” لعدة أشهر، كما حدث في عام 2022، أثناء تفاوضها على المناصب والتحالفات. وبمجرد انتخاب المتحدث باسم البرلمان تتوجه الأنظار لاختيار الرئيس الذي يتطلب تصويت ثلثي أعضاء البرلمان منذ عام 2022، مما يفرض التوافق ويتيح للأقلية عرقلة العملية، مع وجود مناورات سياسية مكثفة. بعد انتخاب رئيس البرلمان يكون امامه 15 يومًا لترشيح رئيس وزراء من "الكتلة الأكبر" وتفسر المحكمة هذا المصطلح بما يُشكل بعد الانتخابات، ما يجعل المفاوضات بعد الانتخابات جزءًا أساسيًا من تشكيل الحكومة. وبمجرد ترشيح رئيس الوزراء المكلف، يكون أمامه 30 يومًا لعرض التشكيلة الوزارية وبرنامج الحكومة على البرلمان؛ للتصويت على منح الثقة. وتسيطر المفاوضات أيضًا على هذه المرحلة، إذ يتم تقسيم الوزارات بين الفصائل الرئيسة، ويطالب كل منها بالمناصب الأساسية بما يتناسب مع وزنه البرلماني.
تجري المفاوضات السياسية في العراق خلف الكواليس بين قادة الكتل الحاكمة، الذين يستخدمون نتائج الانتخابات كورقة مساومة لتقاسم المناصب الوزارية و"الدرجات الخاصة" التي تمنحهم النفوذ والوصول إلى موارد الدولة. يُظهر الصراع على السلطة في العراق، وأن النخب لا تكتفي بالتفاوض على المقاعد، بل تلجأ أيضًا إلى العنف للحفاظ على نفوذها، كما حدث في اقتحامات المنطقة الخضراء عامي 2021 و2022، واستهداف منازل سياسيين ووقوع اغتيالات متبادلة تعد جزءًا من المشهد السياسي المعتاد.
إعادة بناء الثقة في الانتخابات العراقية: تشجيع المشاركة والمساءلة
وُضع النظام الانتخابي بعد 2003 لمنع عودة الدكتاتورية وتحقيق توازن سياسي دوري يضمن التعددية والاستقرار، مع تمكين العراقيين من محاسبة قادتهم وحماية مكاسبهم الديمقراطية. بعد عقدين، تحول النظام الانتخابي العراقي إلى أداة لترسيخ سلطة النخب، إذ تآكلت الديمقراطية والمساءلة، وتم تسييس مؤسسات الدولة وإضعاف أدوات الرقابة الشعبية مثل الاحتجاجات عبر الترهيب والعنف. على المدى القريب، سيستمر النظام السياسي العراقي بلا تغييرات جوهرية، مع بقاء الإطار التنسيقي في قيادة تشكيل الحكومة، والتيار الصدري محتفظًا بنفوذه جزئيًا، فيما تسعى الأحزاب الكردية والسنية الكبرى لاستعادة وزيادة حصتها من السلطة.
إنَّ إعادة بناء الثقة في العراق تتطلب معالجة العجز الديمقراطي، وضمان ربط الانتخابات بالمساءلة، وتحسين القوانين الانتخابية لضمان عدالة وشفافية التصويت، فضلا على تعزيز قدرة البرلمان على الرقابة الفعّالة على الحكومة والمسؤولين. وإنَّ تحقيق الإصلاح في العراق يحتاج إلى إرادة سياسية من النخبة، ويمكن تعزيز هذه الإرادة عبر تعاون شبكي بين المجتمع المدني والفاعلين الإصلاحيين داخل النظام؛ لخلق ضغط فعّال من أجل التغيير. فمن دون اجراء إصلاح هيكلي، تبقى الانتخابات في العراق مجرد منافسة نخبوية، ولن تحقق مساءلة المواطنين، لذا فالإصلاح هو السبيل لإعادة بناء الثقة والديمقراطية الحقيقية.
رابط المقال الاصلي:







اضافةتعليق