لا يعد اتفاق بغداد واربيل اتفاق راسخاً، اذ لا يستند على اطر هيكلية وقانونية ذات قوة الزام لكلا الطرفين بما يجعل من الاتفاق دستوريا ومتكامل البنى التحتية الفنية والتنظيمية، وهذا يعني، بعبارة اخرى، ان دوافع الاتفاق ليست من ضمنها المصلحة الوطنية، بل حركة اجادت بغداد واربيل في ترتيبها لتجاوز مرحلة الانتخابات والتغني بالإنجاز، وهو نجاح مؤقت لا يمكن التعويل عليه في حل الخلافات بين بغداد واربيل
في ظل عدم وجود قانون للنفط والغاز على المستوى الاتحادي للدولة العراقية، شكلت الخلاف حول تصدير النفط ابرز ملفات الخلاف بين بغداد واربيل، فضلا عن ملفات اخرى ترتبط به مباشرة او بشكل غير مباشر كملف رواتب موظفي الاقليم وتخصيصات الموازنة وديون الشركات الاجنبية في الاقليم، والملف الاكبر هو المناطق المتنازع عليها.
فمنذ ما يقارب من اكثر من عامين ونصف، تصاعدت حدة الاختلاف بين اربيل وبغداد ووصل حدة ايقاف تصدير النفط عبر خط الانابيب العراقي التركي بعد ان قضت غرفة التجارة الدولية بأن تركيا انتهكت معاهدة عام 1972 بين العراق وتركيا التي تحكم خط الأنابيب. والزم القرار أنقرة بدفع 1.5 مليار دولار لبغداد مقابل الصادرات غير المصرح بها حيث سمح خط الأنابيب لإقليم كردستان العراق بتصدير نفطه الخام بشكل مستقل. في حين أن تركيا هي التي أغلقت خط الأنابيب ردًا على الحكم، إلا أن العقبات الرئيسة أمام إعادة فتح خط الأنابيب تركزت حول النزاعات على السيادة والموارد الطبيعية بين أربيل وبغداد، وصلاحيات الحكومة الفيدرالية مقابل صلاحيات الاقليم، وعقود شركات النفط العالمية في إقليم كردستان، والمصالح المالية والسياسية المتنافسة لحكومة إقليم كردستان، والقوى السياسية المتنافسة في بغداد. وتقدر جمعية صناعة النفط في كردستان أن أكثر من 35 مليار دولار قد فُقدت من الإيرادات لإقليم كردستان بسبب الإغلاق.
ورغم التواصل بين بغداد واربيل والزيارات المتبادلة بين وفودهما والاتفاقات البسيطة والتصريحات والبيانات المشتركة، الا ان السلطات في كلاهما لم تصل الى حل نهائي لأساس الخلاف وهو ملف تصدير النفط طوال المدة السابقة لهذا الاتفاق.
وبتطور سريع ولافت ، والبعض رجح وجود ضغوط دولية، اعلنت كل من اربيل وبغداد استأنافهما تصدير النفط عبر خط الأنابيب العراقي التركي (ITP) إلى السوق العالمية، وذلك بموجب اتفاق بسيط بين الحكومة الاتحادية العراقية في بغداد، وحكومة إقليم كردستان في أربيل، وشركات النفط السبع الكبرى، وشركة نفط كردية محلية.
وصفت كل من اربيل وبغداد ان الاتفاق انجاز لهما على طريق تسوية الخلافات وانه انجاز مهم وتطور كبير على مستوى التنسيق بين الصلاحيات السيادية وصلاحيات الاقليم في وقت تشهد المنطقة تصدعات اقليمية مؤثرة وصراعات وحروب وتطورات سياسية وامنية خطيرة، وذهب البعض الى انها تعكس التوازن بين المصالح الدستورية والتاريخية والسياسية والتجارية بين اربيل وبغداد.
لكن في نهاية المطاف، فان السياسات المرتبطة بالاتفاقية هي التي جعلت التفاوض عليها مُعقّدًا للغاية، وربما تجعل استمرارها أكثر هشاشة، وسيتضح ذلك بعد الانتخابات القادمة وطبيعة التقاطعات السياسية وايضا مع نهاية السنة المالية ، واخيرا صلاحية اتفاق خط الانابيب العراقي التركي.
مضامين الاتفاق
يُلزم الاتفاق حكومة إقليم كردستان بتسليم ما لا يقل عن 230 ألف برميل نفط يوميًا الى وزارة النفط في الحكومة الاتحادية، مع السماح لها بالاحتفاظ بخمسين ألف برميل يوميًا للاستخدام المحلي. وقد قبلت الحكومة العراقية تعويضات عينية من شركات النفط في إقليم كردستان، وتتحمل رسوم عبور خطوط الأنابيب، ووافقت على التحكيم الدولي مع التنازل عن الحصانة السيادية.
بالمقابل تخلت أربيل عن مطالبتها بتصدير النفط، وقلصت تسويقها المستقل، وسيتم رفع اسم النفط المنتج من حقول إقليم كردستان على أنه "نفط كركوك الخام، وليس نفطًا كرديًا". وقد حصلت شركات النفط العالمية على ضمانات بسداد تكاليف الإنتاج والنقل، على أن تُقيّم تكاليف الإنتاج لاحقًا شركة استشارية دولية تعاقدت معها وزارة النفط.
كذلك استعادت بغداد الرقابة على الصادرات، وأدرجت النفط المصدر من أربيل ضمن قانون الموازنة الاتحادية، مُحققةً بذلك هدفًا راسخًا. بالمقابل تمسكت حكومة إقليم كردستان بقطاع الطاقة محليًا، وحصلت على اعتراف بتكاليف إنتاجها، واحتفظت بالقدرة على بيع النفط للخارج، على الأقل في الوقت الحالي، وإن كان ذلك تحت مظلة شركة تسويق النفط الحكومية.
كذلك يتضمن الاتفاق الى استمرار وزارة المالية العراقية التدقيق في السجلات المالية لحكومة إقليم كردستان وإيراداتها، وذلك لضمان تدفقًا مستمرًا ومستقراً لحصة حكومة إقليم كردستان من الموازنة الاتحادية.
الاتفاق قابل للتجديد كل ثلاثين يومًا حتى 31 /كانون الأول 2025، وأن الأطراف لا يمكنها التراجع عن الاتفاق من جانب واحد حتى الموعد النهائي المحدد في ديسمبر/كانون الأول 2025،
توقيت الاتفاق
سياسيًا، تضغط واشنطن لإعادة فتح خط الأنابيب منذ إغلاقه، ومع وجود مستثمرين أمريكيين من بين شركات النفط العالمية، وبالتالي كلا الحكومتين في اربيل وبغداد يهدفون الى الحد من هذا الضغط والحفاظ على علاقات قوية مع الولايات المتحدة الاميركية.
الامر الآخر، وفي ظل الانتخابات البرلمانية القائمة، تريد الاحزاب السياسية في كل من بغداد واربيل ان تهيء بيئة سياسية مناسبة اكثر طمأنة لجماهيرها للتفاعل مع الحدث الانتخابي، فضلا عن رغبة كلا الطرفين بالتغني بتحقيق منجز يطمئن الناس ويهدئ من مخاوف المستقبل فيما يخص الخلافات بين الطرفين.
الاشكاليات التي تواجه الاتفاق:
امكانية تجديد الاتفاق كل ثلاثين يوما حتى نهاية السنة الحالية ( 31 كانون الاول 2025 )، وبقدر ما هو عنصر قوة، الا انه يُدلل على تزعزع الثقة بين الطرفين على الرغم من اشهر عديدة من المفاوضات واللقاءات .
من جانب اربيل ، التي تسعى لضمان تحويل حصة الاقليم من الموازنة الاتحادية بأنسيابية، لازالت لديها نفس المخاوف من يتأثر الاتفاق بالظروف والمستجدات السياسية والاجراءات التقنية المتعلقة بعمليات التدقيق التي ستستمر بها بغداد فيما يتعلق بالموظفين والرواتب في ظل وجود قرار للمحكمة الاتحادية بوجوب توطين رواتب موظفي الاقليم.
عامل خارجي مهم سيكون حاضرا كإشكالية تواجه الاتفاق، الا وهو انتهاء صلاحية اتفاقية نقل النفط الخام العراقية التركية (ITP). وقد أشارت تركيا بالفعل إلى ضرورة التفاوض على معاهدة جديدة تحكم اتفاقية نقل النفط الخام العراقية (ITP) بحلول تموز 2026 لضمان استمرار تدفق النفط. وبالتالي، حتى في حال صمد الاتفاق الثلاثي، فإن انتهاء صلاحية اتفاقية نقل النفط الخام العراقية التركية (ITP) الوشيك قد يثير تساؤلات جدية حول مستقبل صادرات الاقليم على المدى المتوسط.
وبالتالي لابد من مفاوضات جديدة مع الجانب التركي لتجديد اتفاقية نقل الخام العراقي مع تركيا او تعديلها ، وهنا تُثار مخاوف من امرين: الاول انه قد تسعى تركيا الى اتفاق طاقة أوسع يشمل الغاز والكهرباء وربما المياه، فضلا عن قرار التحكيم الدولي الذي جاء بالضد من الجانب التركي. والثاني، هو ان الخلافات وعدم اليقين المتلق بالجوانب الفنية والمالية بين بغداد وأربيل، قد تكون حاضرة وبقوة على المفاوضات مع أنقرة في المستقبل القريب. وهذا يبعثر الموقف العراقي ويجعله غير موحد تجاه الجانب التركي ذو الموقف الثابت والواضح والذي يعرف ويدرك لما يريد.
بهذا لا يعد اتفاق بغداد واربيل اتفاق راسخاً، اذ لا يستند على اطر هيكلية وقانونية ذات قوة الزام لكلا الطرفين بما يجعل من الاتفاق دستوريا ومتكامل البنى التحتية الفنية والتنظيمية، وهذا يعني، بعبارة اخرى، ان دوافع الاتفاق ليست من ضمنها المصلحة الوطنية، بل حركة اجادت بغداد واربيل في ترتيبها لتجاوز مرحلة الانتخابات والتغني بالإنجاز، وهو نجاح مؤقت لا يمكن التعويل عليه في حل الخلافات بين بغداد واربيل.








اضافةتعليق