فضلا على أهمية وسائل الاعلام ودورها الفاعل في كشف الفساد وفضح المتورطين فيه، يحتاج العراق الى جيل جديد من السياسيين الذين لا يكررون أخطاء من سبقهم، ويمتلكون في الوقت نفسه الرؤية الواضحة لبناء بلدهم وفقا لما تقتضيه متطلبات العدالة، والشفافية، والحوكمة، والحكم الرشيد...وبما يضمن منع المجال السياسي من توفير الغطاء والحماية للفاسدين
يشير مصطلح الضباب الأسود الى سلسلة من فضائح الفساد التي ضربت اليابان في أواخر الستينات ومطلع السبعينات من القرن الماضي، تورط فيها عدد من البرلمانيين اليابانيين من الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم، بما فيهم رئيس البرلمان، في عهد حكومة رئيس الوزراء ايساكو ساتو، من خلال تلقيهم الرشاوي، وابتزازهم لرجال الاعمال، وتلاعبهم بالسحوبات المصرفية، حتى وصلت حصصهم في المقاولات العامة الى 3% من قيمة المقاولة في عدد من قطاعات الاعمال، مثل: مشروعات السدود، ومبيعات الأراضي، ومشاريع السكك الحديدية... وقيل في وقتها: ان الرشوة تلف السياسة كالضباب الأسود. ولم تقتصر مظاهر الفساد على السياسة وحدها، بل انتقلت الى ميدان الألعاب الرياضية فتورط عدد من فرق البيسبول اليابانية بعلاقات مشبوهة مع عصابات الجريمة المنظمة اليابانية (الياكوزا) بهدف تغيير نتائج المسابقات لمصلحة رهانات محددة.
لقد ترتب على فضائح الضباب الأسود انهيار ثقة المواطن الياباني بالطبقة السياسية الحاكمة، وهي ثقة لم يستعدها السياسيين فيما بعد، وانما استمرت بالتراجع حتى وصلت في استطلاعات سنة 2001 الى ان 91% من اليابانيين البالغين لا يثقون ببرلمانهم، مما يدل دلالة واضحة على ان ثقة الناس عندما تهتز فمن الصعب استعادتها بسهولة.
والسؤال المهم هو لماذا لم يدفع الفساد اليابان الى التراجع والانهيار؟
ان الإجابة تكمن في وجود جهاز بيروقراطي قوي يهيمن عليه مسؤولون حكوميون يتمتعون بالكفاءة والامتيازات العالية يطلق عليه بـ"التحالف الصناعي البيروقراطي" او ما يسمى بـ "نظام 1941" وهذا الجهاز هو الذي قاد اليابان في أصعب ظروفها لتحمل وتجاوز تبعات الحرب العالمية الثانية وقيادة معجزتها الاقتصادية، حتى قيل: ان اليابان لديها " اقتصاد من المستوى الأول، وسياسة من المستوى الثالث". وعلى الرغم من وقوع بعض افراد هذا الجهاز البيروقراطي في شرك الفساد، الا ان جوهره وادائه العام بقي سليما، مما ابعد السياسات الاقتصادية عن التسييس، وحافظ على كفاءة وأداء الجهاز الإداري للدولة.
فضلا على ذلك، فان فضائح الضباب الأسود حفزت الحركات الإصلاحية داخل اليابان مع بروز جيل جديد من السياسيين الراغبين بالتخلص من روابط الفساد الحزبي التقليدية للعب دور أفضل في قيادة بلادهم. وتنامي الدور الفاعل للإعلام في كشف الفساد. وقيام مؤسسات مكافحته بما هو مطلوب منها لملاحقة الفاسدين ومحاسبتهم او على الأقل تحييدهم وابعادهم عن مناصبهم.
إضافة الى ما تقدم، ولأن معظم الفاسدين كانوا من البرلمانيين، فقد اتُخذت سلسلة من الاصلاحات التشريعية بدأت بتعديل قانون الانتخاب كتعديل نظام الدوائر الانتخابية من خلال انتخاب 300 نائب بطريقة الانتخاب الفردي والدائرة الواحدة، و200 نائب بطريقة التمثيل النسبي، وتشديد القيود المتعلقة بالتبرعات المالية للحملات الانتخابية، وغيرها من الإجراءات التي تنظم علاقة الثروة بالسياسة، للحد من الفساد الحكومي.
نعم، لم يختف الفساد داخل نظام الحكم، ونجح الكثير من المتورطين فيه، لاسيما كبار السياسيين من الإفلات من العقاب، ولكن اليابان حافظت على تجربتها لتكون بين أكثر دول العالم تقدما.
وبقدر تعلق الامر بالعراق، فان تجربة محاربة الفساد اليابانية يمكن الاستفادة منها في مكافحة الفساد في العراق، فضباب الفساد الأسود يلف-للأسف- السياسة العراقية بصورة قاتمة، وما لم تُتخذ إجراءات حاسمة لمحاربته فان اضراره لن تتوقف عند فقدان ثقة الناس بحكامهم، بل ستشل مؤسسات الدولة، وتنخر قدراتها، وتتسبب بفشل التجربة الديمقراطية الناشئة وتحكم عليها بالسقوط.
ان العراق، شأنه شأن دول الشرق الأوسط الأخرى، سيطرت عليه لقرون عادة خاطئة تقوم على غياب الفواصل بين القرار السياسي والقرارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهيمن المجال السياسي بقوة على بقية المجالات الحياتية، وما زاد الطين بلة، هو تجربة الحكم الاستبدادي قبل سنة 2003 التي جعلت مؤسسات الدولة مجرد فناء خلفي للحزب الحاكم تحت شعار " الحزب هو الدولة، والدولة هي الحزب"، مما دمر الجهاز البيروقراطي الإداري بطريقة مريعة، وجعل القرارات التي تصدر من هذا الجهاز مجرد صدى لقرارات وسياسات المسؤولين الحزبيين القابضين على السلطة، فكانت قرارات مسيسة بعيدة عن المهنية والكفاءة الإدارية. هذه التركة الثقيلة من التداخل بين السياسي وغير السياسي، وخضوع القرار الإداري للتسييس والهيمنة الحزبية، استمرت وتفاقمت بعد سنة 2003، وتحولت مؤسسات الدولة الى اقطاعيات حزبية تتقاطع إجراءاتها مع البرنامج الحكومي المعلن، ولا تنسجم مع متطلبات الكفاءة الإدارية المطلوبة، مما خلق بيئة مناسبة لتغلغل الفساد في البنية الحكومية المؤسساتية من جانب، واضعاف دور مؤسسات مكافحته من جانب آخر. وإذا بقي الحال على ما هو عليه، ستظل سياسات مكافحة الفساد مجرد شعارات حكومية غير قابلة للتطبيق. وعليه من الضروري لاي حكومة عراقية راغبة في مكافحة الفساد العمل على ابعاد القرارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عن التسييس، والعمل على تطوير الجهاز الإداري للدولة ليكون متحررا من الهيمنة الحزبية، ليعمل بمهنية واستقلالية كافية ليتخذ قراراته بما يتناسب وحاجة كل قطاع من القطاعات الحكومية بمنظار استراتيجي صحيح، وتحت قيادة واشراف قيادات مهنية عالية الكفاءة.
كما ينبغي القيام بالإصلاحات التشريعية المطلوبة فيما يتعلق بالقوانين الخاصة بالأحزاب، والانتخاب، والإدارة المالية للحملات الانتخابية بما يضمن وجود قوانين وإجراءات مستقرة لا تتغير مع كل دورة انتخابية، لمنع المصالح الحزبية الضيقة من التدخل في هذه القوانين والإجراءات بعيدا عن مقتضيات الصالح العام، فقد اثبتت تجربة العقدين الماضيين ان عدم الاستقرار التشريعي في القوانين المذكورة، وتغيير الإجراءات مع كل دورة انتخابية خلق ذرائع مناسبة لتدخل المصالح الحزبية، وأوجد بيئة غير صالحة لمحاربة الفساد بمختلف انواعه.
فضلا على أهمية وسائل الاعلام ودورها الفاعل في كشف الفساد وفضح المتورطين فيه، يحتاج العراق الى جيل جديد من السياسيين الذين لا يكررون أخطاء من سبقهم، ويمتلكون في الوقت نفسه الرؤية الواضحة لبناء بلدهم وفقا لما تقتضيه متطلبات العدالة، والشفافية، والحوكمة، والحكم الرشيد...وبما يضمن منع المجال السياسي من توفير الغطاء والحماية للفاسدين. إضافة الى الحاجة الى وجود قضاء قوي لديه الجرأة ليبادر بملاحقة ملفات الفساد، وتحفيز مؤسسات مكافحته بما يضمن لها الحصانة والقدرة على اعتقال الفاسدين مهما كانت مستوياتهم ومراكزهم الوظيفية والسياسية.



اضافةتعليق