إن الرهان الجيواستراتيجي على جزر المحيط الهادي لم يعد مجرد مسألة سيطرة عسكرية، بل اصبح صراعا متعدد الابعاد الاقتصادية، والدبلوماسية والثقافية وحتى البيئية بين اكبر القوى العالمية . وتحولت هذه الجزر الصغيرة مع اطلالة القرن الجديد من رقعة نائية خامدة في وسط المحيط الهادئ الى معترك استراتيجي وساحة اختبار حقيقية لتوزيع القوى في النظام الدولي الجديد، فغدى الرهان الجيواستراتيجي عليها، رهان على المستقبل.. على طرق التجارة، والموارد، بل وحتى النفوذ العالمي
لم تعد جزر المحيط الهادي التي تعرف باسم (أوقيانوسيا)، الممتدة عبر منطقة شاسعة من السواحل الشرقية لأستراليا وآسيا حتى الأمريكيتين، مجرد وجهات سياحية نائية او نقاط متناثرة على الخارطة الدولية، بل غدت مسرحاً جديدا للتنافس الاستراتيجي بين القوى الكبرى، بفعل ما تحظى به من مزايا جيو استراتيجية تتداخل فيها حسابات الجغرافيا والسياسة والاقتصاد والأمن في معادلة بالغة التعقيد.
فمن حيث الموقع الجيواستراتيجي والحسابات الأمنية تشكل هذه الجزر الممتدة على مساحة مائية هائلة من المحيط الهادي، حاجزاً طبيعياً بين آسيا والأمريكيتين، وهي في الوقت عينه مناطق عازلة" تفصل بين القوى العظمى ومحاور ارتكاز استراتيجية متقدمة للتحكم في الممرات البحرية والجوية الأكثر حيوية في العالم. فمن يسيطر على هذه الجزر يتحكم في سلاسل الإمداد والتجارة الدولية، خاصة تلك المؤدية إلى مضائق إندونيسيا ومالقا، وشواطئ أستراليا ونيوزيلندا.
في الماضي، كانت هذه الجزر مسرحاً للمعارك الحاسمة في الحرب العالمية الثانية (مثل غوادالكانال وإيو جيما)، وهي اليوم تحتفظ بنفس الأهمية العسكرية، حيث تتيح للقوى المتمركزة فيها إسقاط نفوذها على مسافات بعيدة ومراقبة لتحركات الخصوم في المحيط.
على الصعيد الاقتصادي، وبسبب من سيطرة هذه الجزر على مناطق اقتصادية بحرية خالصة (شاسعة) تمنحها حقوقاً حصرية في استغلال الثروات البحرية والحية فيها ؛ صارت المياه المحيطة بهذه الجزر من أكبر خزانات التونة والمعادن النادرة والمهمة للتقنيات الحديثة (مثل الكوبالت والنيكل والمنغنيز)، في العالم، ما يجعل من الجزر بوابات للوصول إلى هذه الثروات التي تطمع فيها القوى الصناعية.
بعد الحرب العالمية الثانية، كانت هذه المنطقة خاضعة لسيطرة الولايات المتحدة وحلفاؤها (أستراليا، نيوزيلندا، فرنسا، المملكة المتحدة) التي استخدمتها - طوال مدة الحرب الباردة - كقواعد عسكرية ومنصات لتطويق النفوذ السوفيتي وكحقول للتجارب النووية (مثل بيكيني وموروروا).
ومع الصعود الدراماتيكي للقطب الصيني على المسرح الدولي، شهد مطلع القرن الحادي والعشرين تحولاً جذرياً في مساحة ومسارات الاهتمام الاستراتيجي للقوى الكبرى بهذه المنطقة التي تحولت إلى ساحة تنافس جيواستراتيجي محتدم بين القوتين العظميين ( الولايات المتحدة والصين) . هذا التنافس قد استحضر اهداف وأدوات وفعاليات استراتيجية متنوعة الابعاد الـ( سياسية والامنية والاقتصادية وحتى الثقافية ) من جانب هاتين القوتين .
فمن جانب الولايات المتحدة، تمحورت الأهداف الاستراتيجية ا من العودة الواعدة الى هذه المنطقة النائية من العالم، في تأكيد الوجود الأمريكي التقليدي كقوة بحرية مهيمنة في المحيطين الهادي والهندي ومتحكمة في خطوط الامداد البحري الدولي وقادرة على حماية شبكة تحالفاتها التقليدية (مع أستراليا ونيوزيلندا) ضمن ما يعرف بحلف (ANZUS ) فضلا عن قدرتها على بناء تحالفات جديدة لمواجهة التحدي الصيني الذي صار يتطلع الى إنشاء موطئ قدم عسكري او اقتصادي دائم في هذه الجزر، ولا نسقط من حساباتنا تطلعات الولايات المتحدة المستقبلية الى استثمار موارد المنطقة لتقوية شوكتها على المنافسة الدولية .
وبعد فترة من الإهمال الاستراتيجي عادت الولايات المتحدة وحلفاؤها التقليديون ( استراليا واليابان ونيوزلندا ) بقوة الى المنطقة مدفوعة بمزاياها الاستراتيجية ( سابقة الذكر ) ومخاوفها من تمدد العملاق الصيني اليها وساعية الى تأكيد هيمنتها العالمية عبر إعادة ترميم شبكة تحالفاتها الاستراتيجية الجماعية مع دول المنطقة في سياق ما يعرف باستراتيجية ( إعادة التأكيد والاحتواء )، فعلى الصعيد الأمني سعت الولايات المتحدة الامريكية الى إعادة ترميم نفوذها العسكري من خلال إعادة تأهيل القواعد العسكرية القديمة التي تعود للحرب العالمية الثانية وزيادة قدرة القوات على التنقل السريع لتعزيز الردع في المحيط الهادئ (مثلما فعلت في بابوا غينيا الجديدة) ثم تعزيز تواجدها العسكري في المناطق الاستراتيجية كـ(غوام، وجزر ميكرونيزيا). ولا ننس في هذا المقام ان الولايات المتحدة كانت قد سلحت نفسها وأكدت وجودها العسكري في المنطقة عندما ابرمت منذ وقت سابق سلسلة من الاتفاقيات الأمنية مع تلك الدول الجزرية مثل (بالاو، ولايات ميكرونيسيا المتحدة، وجزر مارشال)، بجانب تفعيل شبكة متداخلة ومتكاملة من الشراكات الامنية أولا مع حلفائها الرئيسيين ( أستراليا ونيوزيلندا واليابان والمملكة المتحدة وفرنسا وحتى الهند) ضمن إطار استراتيجية المحيطين الهندي والهادي الحرة والمفتوحة لتعزيز سيادة القانون، والشفافية، واستقلالية الدول . وعلى ذلك الأساس والمنطلق أجريت المناورات العسكرية المشتركة بشكل منتظم مع أستراليا ونيوزيلندا وفرنسا، وتم إطلاق تحالف أوكوس (AUKUS) مع أستراليا والمملكة المتحدة، الذي يركز على تبادل التكنولوجيا العسكرية المتطورة (مثل الغواصات النووية) وتعزيز القدرات في المحيط الهادي، وكذا تحالف الشراكة الرباعية (Quad) مع الهند واليابان وأستراليا، لتعزيز التعاون في مجالات الأمن البحري، والأمن السيبراني، وتوفير بدائل للبنية التحتية. وتاليا توجت شبكة تحالفاتها الاستراتيجية مع دول المنطقة الجزرية بابرام ميثاق الشراكة الاستراتيجية مع دول جزر المحيط الهادئ في عام 2022 والذي تعهدت بموجبه بإنشاء صندوق مساعدات جديد يركز على التنمية الاقتصادية والصحة والأمن البحري وزيادة المساعدات الاقتصادية، في مسعى امريكي لاقامة حاجز صد وجبهة موحدة ضد التوسع الصيني عبر ما يعرف بمبادرة الحزام والطريق .
وقد عززت الاستراتيجية الامريكية حضورها الأمني في المنطقة، بسلسلة من المساعي والفعاليات الدبلوماسية والثقافية حينما سعت الى إنشاء بؤر استيطانية وسفارات جديدة في جزر(فانواتو وسليمان) لتعويض الإهمال السابق وتعزيز التواصل المباشر ؛ كما وأعادت افتتاح السفارات (في جزر ( تونغا، كيريباتي) وتعيين مبعوث خاص للمحيط الهادئ لزيادة التعاون والحضور السياسي
وكانت اذرع المساعدات الاقتصادية الامريكية ممدودة لهذه الدول بمبالغ تصل الى (7.1 مليار دولار) لتمويل دول اتفاقيات الارتباط الحر (جزر مارشال، ميكرونيزيا، بالاو) لمدة 20 عاماً، كجزء من استراتيجيتها طويلة الاجل للبقاء المكثف في المنطقة ، دون ان تنسى امر تطمين مخاوف دولها بتركيزها على مناقشة قضايا تغير المناخ، والتنمية الاقتصادية، والأمن البحري في محاولة منها لسد الفجوة بين أولويات واشنطن وحكومات تلك الجزر.
على الضفة الأخرى للمحيط الهادي يقبع التنين الصيني المتطلع الى كسر جليد الحصار والهيمنة الغربية على هذه المنطقة الحيوية ؛ اذ تعتبر الصين أن سلسلة الجزر الأولى التي تمتد من اليابان حتى بحر الصين الجنوبي تشكل طوقاً أمريكيا خانقاً لمجال نفوذها وخطوط امدادها الكونية، لهذا تعد جزر المحيط الهادي هي البوابة الجنوبية الشرقية لكسر هذا الحصار والوصول إلى المياه المفتوحة. وهي أي الصين لا تكتم رغبتها الصريحة في إضعاف النفوذ الدبلوماسي لتايوان من خلال كسب صداقة واعتراف هذه الدول الصغيرة في المحافل الدولية لاعادة ضم تايوان، ومن منظور امني تسعى بكين الى بناء نقاط دعم لوجستية وعسكرية محتملة في بعض هذه الجزر لاسناد خططها العسكرية ولاكسابها هامشا مضافا من القدرة على المناورة والمرونة في عملياتها الحربية المستقبلية ضد خصومها المحتملين وعلى راسهم الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها في المنطقة .
تعتمد استراتيجية الصين الهجومية في هذه المنطقة على دمج القوة الاقتصادية والدبلوماسية لبناء نفوذ تدريجي بهدف كسر الطوق الأمني الغربي متوسلة لذلك الغرض بالاتفاقيات الثنائية في سياق خطتها الكبرى مبادرة الحزام والطريق BRI) ) . ويمثل المدخل الاقتصادي والاستثماري الركيزة الرئيسة في جهود التسلل الصيني الى دول المنطقة ؛ اذ تجتهد بكين في استغلال الثغرات التنموية والاقتصادية لهذه الدول لخلق فرص الانقضاض الاقتصادي التدريجي على اقتصاداتها سبيلا لإخضاعها والتأثير في قراراها السياسي عبر اليات متنوعة بضمنها الاستثمار في مشاريع البنية التحتية، مستغلة قدرتها المالية المتفوقة وحاجة تلك الدول، لتقديم قروض ميسرة وضخمة لها لتمويل مشاريع البنية التحتية (مباني البرلمانات، الموانئ، المطارات، الطرق، المنشآت الرياضية)، في مسعى لكسب الثقة واستدراج المزيد منها الى هذا الكمين الاقتصادي؛ او تنفذ مشاريع في قطاعات حساسة مثل (الاتصالات، شبكات الجيل الخامس، والطاقة، والأمن السيبراني او حتى التعدين في قاع المحيط.) بغية احكام الطوق الاقتصادي تدريجيا على تلك الدول والتمهيد مستقبلا لتامين السيطرة على مصادر الطاقة وموارد الصناعة المتقدمة . وتدعيما لهذا المسار ايضا نشطت بكين في نصب كمائن المديونية لهذه الاخيرة بهدف اخضاعها للضغط السياسي، والتسلل الاقتصادي عبر الية الحيازة لأصول استراتيجية (كالموانئ) في حالة العجز عن السداد، كما حدث في ميناء هامبروت في سريلانكا.
بالتزامن مع تلك المساعي الاقتصادية وتسديدا لها وتعميق الأثر الاستراتيجي، نشطت الدبلوماسية الصينية في تطوير وتدعيم جسور العلاقات السياسية والدبلوماسية مع تلك الدول بصيغ التواجد الدبلوماسي المكثف عبر فتح سفارات وقنصليات في عواصم الجزر، وإرسال كبار المسؤولين في زيارات متكررة لتعزيز الروابط السياسية و الثقافية والشعبية وخلق قنوات نفوذ مباشرة تحت مظلة ما يعرف بـ ( التوأمة بين المدن )،او حتى بتقديم المنح الدراسية والتدريب للنخب والكوادر الشبابية من دول الجزر للدراسة والتدريب في الصين، لبناء جيل موالي للمصالح الصينية. وقد ذهبت الصين الى ابعد من ذلك حينما قدمت الرشوة المبطنة بصيغ المنح والمساعدات المالية مقابل تحويل الاعتراف الدبلوماسي لهذه الدول من تايوان إلى بكين، كما فعلت مع جزر سليمان وكيريباتي.
وقد جاء المسعى الأمني الصيني متأخرا عما سواه من مساعي ومسدداً لما دشنه واختطه المسعى الاقتصادي والدبلوماسي من قنوات فعاليات إيجابية، تجنبا لاثارة حفيظة القوى العالمية الكبرى ومعها القوى الإقليمية والصغرى في المنطقة ؛ ولعل هذا ما يفسر انتهاج الاستراتيجية الصينية لمسار ابرام الاتفاقيات الأمنية الثنائية المحدودة مع دول المنطقة دون التواجد المكثف بصيغ التحالفات الموسعة، مثال ذلك اتفاقيتها مع جزر سليمان في عام 2022 التي تتيح لها إرسال قواتها لـ "حماية الأمن" وتدعيم وجودها اللوجستي والعسكري على بعد أقل من 2000 كم من أستراليا؛ الى جانب مساعي صينية مماثلة لتوسيع التعاون في مجالات الشرطة وإنفاذ القانون والتدريبات البحرية لتعزيز الوجود الأمني الصيني داخل أجهزة الدولة السيادية في هذه الجزر، دون ان تنسى بكين نصيبها من استعراض القوة عند تخوم هذا الارخبيل باجراء التدريبات العسكرية بالذخيرة الحية في جنوب غرب المحيط الهادئ لتأكيد حضورها الفاعل وقدرتها على الوصول والمواجهة للقوى التي تهدد امنها ومصالحها الاستراتيجية في هذه المنطقة الحيوية النائية من العالم .
في الختام، يُمكن القول إن الرهان الجيواستراتيجي على جزر المحيط الهادي لم يعد مجرد مسألة سيطرة عسكرية، بل اصبح صراعا متعدد الابعاد الاقتصادية، والدبلوماسية والثقافية وحتى البيئية بين اكبر القوى العالمية . وتحولت هذه الجزر الصغيرة مع اطلالة القرن الجديد من رقعة نائية خامدة في وسط المحيط الهادئ الى معترك استراتيجي وساحة اختبار حقيقية لتوزيع القوى في النظام الدولي الجديد، فغدى الرهان الجيواستراتيجي عليها، رهان على المستقبل.. على طرق التجارة، والموارد، بل وحتى النفوذ العالمي.
وما بين حدة الصراع وشدة الاستقطاب ستعصف بهذه المنطقة الامنة – نسبيا – رياح المصالح والمطامح الدولية التي ستضعها على محك الاختيار الحرج، ليس بين الجنوح الى احدى القوتين العظميين على حساب الأخرى فحسب، بل والاختيار الصعب كذلك بين حكمة التعاون المشترك لنهضة المنطقة وسلامها وامنها في شرور التحديات المقبلة، وفي مقدمتها تغير المناخ، وبين مرارة انخراطها في اتون حلبة الصراع المحموم بين اكبر القوى العالمية .
بقي ان نقول ان مصير هذه الجزر الجميلة الهشة لن تحدده أطماع العمالقة، بل قد تحدده ايضاً، حكمة وقدرة دولها على المناورة والحفاظ على مصالحها الوطنية في خضم هذا العاصف الجيواستراتيجي.
مصادر تم الاستفادة منها:
- احمد السيد الحلو، سياسات وآليات الصين لتكريس حضورها في جزر المحيط الهادئ، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة 30 أبريل، 2025 .
- فهد عبد العزيز الشمري وعدنان خلف البدراني، منطقة الاندوباسفيك بين الصراعات الإقليمية والتحالفات الدولية، مجلة دراسات إقليمية، العدد 18، السنة 2024 .
- نور نبيه جميل، التنافس الجيوسياسي في منطقة الاندوباسفيك، مركز حمورابي للبحوث والدراسات، 2024 .








اضافةتعليق