ان الاقتصاد العراقي يقف اليوم على مُفترق طرق بين تشكيل الحكومة من عدمها من ناحية وإعداد الموازنة ومصادقتها وتنفيذها من ناحية أخرى، مما يتطلب من الجهات المعنية أخذ موقف الاقتصاد بعين الاعتبار للحفاظ على مكاسبها مستقبلاً
بعد انتهاء مرحلة الانتخابات البرلمانية جاء اعلان النتائج النهائية ليدخل العراق في مرحلة أخرى لاتقل أهمية ان لم تكن أهم وهي مرحلة تشكيل الحكومة .
في العادة مرحلة تشكيل الحكومة في العراق تمر بمخاض عسير لتتم ولادتها مما تؤثر بشكل سلبي على اداء الاقتصاد العراقي لان الاخير مرتبط بشكل مباشر بالموازنة والاخيرة لاترى النور من دون وجود حكومة أو تأخر تشكيلها.
لماذا الاقتصاد العراقي مرتبط بشكل مباشر بالموازنة؟
هذا الارتباط لم يأتي من فراغ بل له جذور تمتد لما قبل عام 2003 تصل الى نهايات حقبة الخمسينيات من القرن المنصرم، أي مع ثورة تموز 1958 التي جاءت بنظام التخطيط الاقتصادي وعملت على ربط النشاط الاقتصادي بالوزارات وربطت الوزارات بوزارة التخطيط.
هذا ما يعني زيادة الحاجات العامة وضرورة قيام الموازنة بتوفير الايرادات العامة لتمويل تلك الحاجات العامة مما يعني تضخم دور وحجم الموازنة في الاقتصاد العراقي.
ما عزّز من دور الدولة والموازنة معاً في الاقتصاد العراقي تضخم الايرادات النفطية في حقبة السبعينيات إثر تأميم النفط العراقي عام 1972 واستخدام النفط كسلاح في الحرب العربية الاسرائيلية عام 1973، كما هو واضح من خلال بيانات أوبك.
أي اصبحت الموازنة العامة هي العمود الفقري للاقتصاد العراقي، حيث يتم تحديد النفقات التي تتطلبها الوزارات لتسيير انشطتها ثم تقوم بتدبير الاموال اللازمة لتغطية تلك النفقات.
حالات استثنائية
وبالتأكيد، هناك حالات استثنائية قللت من حجم ودور الموازنة في الاقتصاد العراقي، بسبب الظروف الصعبة وخصوصاً مسألة التمويل.
حيث تسبب الحصار الاقتصادي في حقبة التسعينات بتقليص الايرادات النفطية بشكل كبير، مما دفع بالحكومة لفتح الباب أمام القطاع الخاص ليحل محلها في تلبية الحاجات الاقتصادية، ورغم اعتبار هذا الحصار فرصة أمام القطاع الخاص إلا إنه يصبح دوراً رئيسياً.
تحول غير حقيقي
وعلى الرغم من اتجاه الاقتصاد العراقي دستورياً بعد عام 2003 نحو اقتصاد السوق الذي يركز على دور القطاع الخاص في الاقتصاد إلا ان الدولة لازالت تمارس دوراً كبيراً في الاقتصاد العراقي كنتيجة لسوء أدارة عملية التحول الاقتصادي برمتها.
حيث انسحبت الدولة من أغلب الانشطة الاقتصادية واقتصرت على عدد محدود منها والسهلة كالقطاع النفطي من جانب وظلت ممسكة بالملكية لأغلب عناصر الانتاج من جانب آخر ولم تعمل على تذويب العقبات القانونية والادارية أمام القطاع الخاص من جانب ثالث وضعف المؤسساتية من جانب رابع.
دور توزيعي لا تنموي
إذ قامت برصد التخصيصات المتأتية من الصادرات النفطية التي أخذت تتزايد بوتيرة متصاعدة مع بداية الالفية الجديدة وتوزيعها عبر قنوات الانفاق العامة وبالخصوص التشغيلية ويذهب المتبقي منها نحو الاستثمارية وسرعان ما يتم التضحية به مقابل أي انتكاسة لأسعار النفط، مما يعني رهن الاقتصاد العراقي بالموازنة دون الاعتماد على ذاته.
علماً ان النفط الذي تهيمن عليه الدولة لا تعود ملكيته للدولة بل تعود للشعب حسب المادة 111 من الدستور العراقي 2005 لتي تنص على ان“ النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي في كل الاقاليم والمحافظات”
لماذا ترتبط الموازنة بالحكومة؟
نظراً لوجود حاجات عامة كالأمن والدفاع والقضاء والعلاقات الدولية وغيرها والتي لا يُمكن للأفراد القيام بإشباعها لعدم قابليتها للتجزئة والقياس مما يحتم قيام الدولة بإشباعها وهذا يتطلب وجود سياسة مالية واضحة للحكومة توضح فيها نفقاتها وايراداتها لمدة زمنية قادة قد تكون سنة أو أكثر أو أقل.
وتجب الاشارة الى ان الموازنة قد تكون حيادية أو متدخلة حسب طبيعة النظام الاقتصادي السائد وكذلك حسب البنيان الاقتصادي للبلد.
إذ ان البلدان التي تتبع نظام اقتصاد السوق تكون موازناتها حيادية أي لا تتدخل في النشاط الاقتصادي وتقتصر على الوظائف التقليدية كالأمن والدفاع والقضاء لان القطاع الخاص هو القائم بالنشاط الاقتصادي والعكس صحيح.
كما ان البلدان التي يكون بنيانها الاقتصادي متخلف سيكون لموازناتها دور كبير في الاقتصاد على اعتبار ان التنمية الاقتصادية لم تكتمل بعد مما يتطلب وجود الدولة وموازنتها، والعكس صحيح البلدان التي لديها بنيان اقتصادي متقدم تكون موازناتها حيادية.
وبحكم استمرار هيمنة للدولة على النفط الذي يهيمن على الاقتصاد العراقي من ناحية وعدم انطلاق القطاع الخاص من ناحية ثانية وتخلف البنيان الاقتصادي من ناحية ثالثة، وضعف المؤسساتية من ناحية رابعة، ظلت الموازنة مرتبطة بالحكومة ومتدخلة بالاقتصاد العراقي.
الاقتصاد العراقي على مفترق طرق
حيث تُعد السياسة المالية هي الرافعة للاقتصاد العراقي، ونظراً لارتباط الموازنة بالحكومة التي دخلت في مرحلة المخاض بعد انتهاء الانتخابات التي جرت في 11/ 11/ 2025، سيظل الاقتصاد العراقي بانتظار تشكيل الحكومة ومدى قدرة الحكومة على اعداد الموازنة واقرارها بأسرع وقت.
بمعنى انه سيكون على مُفترق طرق من ناحيتين مرتبطتين ببعضهما البعض، من ناحية تشكيل الحكومة من عدمها، أي إذا لم يتم تشكيل الحكومة سيدخل العراق في نفق الركود، ومن ناحية أخرى إذا تم تشكيلها سينتظر اعداد الموازنة واقرارها وتنفيذها.
وكلا الناحيتين مرتبطتين بمدى تفاهم القوى السياسية على تشكيل الحكومة وقدرتها على ادارة الملفات بشكل عام والملف الاقتصادي بشكل خاص، ومرتبطة ايضاً بخارطة التحالفات الحزبية تحت قبة البرلمان التي تعمل على دراسة القوانين الاقتصادية ومن بينها قانون الموازنة العامة والمصادقة عليها.
السيناريوهات المرتقبة
بعبارة أخرى يمكن القول هناك عدّة سيناريوهات تنتظر الاقتصاد العراقي وهي
السيناريو الاول، عدم تشكيل الحكومة ومن ثم عدم اعداد موازنة والدخول في مرحلة ركود.
السيناريو الثاني، تشكيل حكومة لكن قد تكون ضعيفة ولا تستطيع ان تقوم بإعداد الموازنة وتقديمها وتنفيذها.
السيناريو الثالث، تشكيل حكومة قادرة على تقديم الموازنة تشريعياً لكنها فقيرة اقتصادياً وهذا السيناريو الأقرب للواقع.
السيناريو الرابع، تشكيل حكومة قادرة على اعداد موازنة تشريعياً واقتصادياً وهو الأبعد عن الواقع.
هذه السيناريوهات تدفع بالجهات ذات العلاقة للعمل جديّاً على الاسراع بتشكيل الحكومة وإعداد الموازنة بشكل سليم تشريعياً واقتصادياً لتتمكن من انقاذ الاقتصاد وإحراز مكاسب سياسية متينة مستقبلاً.
الخلاصة
ان الاقتصاد العراقي يقف اليوم على مُفترق طرق بين تشكيل الحكومة من عدمها من ناحية وإعداد الموازنة ومصادقتها وتنفيذها من ناحية أخرى، مما يتطلب من الجهات المعنية أخذ موقف الاقتصاد بعين الاعتبار للحفاظ على مكاسبها مستقبلاً.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!