ربما تكون المصالح العليا الستة، والاهداف الاستراتيجية الخمسة المذكورة في الاستراتيجية الحالية، على أهميتها الحيوية، مجرد حبر على ورق إذا ما واجهت الاستراتيجية نفس المعوقات التي رافقت الاستراتيجيات العراقية السابقة
اطلقت الحكومة العراقية في الثاني والعشرين من شهر أيار-مايو الماضي استراتيجيتها الجديدة للأمن الوطني العراقي ، والتي تتضمن رؤيتها واولوياتها وسياستها للسنوات الخمسة القادمة (2025-2030)، حيث حملت الاستراتيجية رؤية عراقية طموحة لبناء الدولة والمجتمع في العراق وفقا للتطورات الجارية في البيئة الداخلية العراقية، والبيئة الخارجية (الإقليمية والدولية)، فجاءت الاستراتيجية تحت شعار " العراق أولا"، فيما تجسدت رؤيتها بعبارة " عراق اتحادي آمن متكامل السيادة، تسوده العدالة والمساواة في المواطنة لتحقيق الاستقرار والتنمية". وقال السيد محمد شياع السوداني رئيس وزراء العراق في كلمته الافتتاحية التي كتبها في مطلع الاستراتيجية: "إن إستراتيجية الامن الوطني العراقي (2025 - 2030) "العراق أولاً" وضحت توجه حكومتنا لاستثمار هذا العقد المفصلي لتعزيز المصالح الحيوية للعراق، وتأمين موقعه لمواجهة التحديات الجيوسياسية، وتعزيز دوره الجيواستراتيجي، والتصدي للتحديات المشتركة، ووضع العراق على طريق مستقبل أكثر اشراقا وأملاً. إن أهمية إستراتيجية الأمن الوطني العراقي تتجلى في قدرتها على مواجهة التحديات والتهديدات، ووضع الخطط والسياسات اللازمة لتحقيق أمن واستقرار البلاد". واضاف في حفل إطلاق الاستراتيجية الذي حضره قادة وممثلون عن الوزارات والمؤسسات ذات العلاقة: " ان هذه الاستراتيجية تأتي لخدمة المواطن وتعزيز الامن والاستقرار والسيادة والازدهار".
يذكر ان الاستراتيجية الجديدة تأتي بعد تجربتين سابقتين شهدهما العراق في وضع استراتيجية شاملة للأمن الوطني: الأولى استراتيجية الامن الوطني (2007-2010)، والثانية استراتيجية الامن الوطني (2016)، ويتضح من سياق هذه التجارب الثلاث عدم الاستقرار في وضع هذه الاستراتيجيات من حيث المضمون والتوقيتات، رغم اختلاف الظروف والاولويات.
وبعد الاطلاع على ما ورد في الاستراتيجية الجديدة نرى ان الارتباك المفاهيمي لا زال سائدا لدى صناع القرار العراقي بين مصطلحي " الامن الوطني" و" الأمن القومي"، وقد رافق هذا الارتباك الجهة المعنية بوضع الاستراتيجية، أي مستشارية الامن القومي، اذ تذبذبت منذ تأسيسها بين هذين المصطلحين، وهذا الامر يتطلب وضع حد له لتكون التسمية موحدة لا في إطار الاستراتيجية والمؤسسات الرسمية العراقية، وانما في إطار الثقافة السياسية العراقية لدى المواطن والمسؤول على حد سواء.
ان تنفيذ الاستراتيجية الحالية يعد أمرا رائعا للدولة والمجتمع في العراق، ولكن مشكلة الاستراتيجيات العراقية هي انها غالبا ما تكلف عند اعدادها الكثير من المال والجهد والوقت، ولكن بعد اطلاقها تكون قدرات الحكومة على تنفيذها محدودة او صعبة للغاية، ويبدو هذا واضحا من خلال ما ورد في الاستراتيجية الجديدة نفسها، اذ نجد ان نقاط الضعف الداخلية التي تواجه تنفيذ الاستراتيجية هي تقريبا ضعف نقاط القوة، فنقاط القوة عددها (13) فيما نقاط الضعف عددها (21)، اما مؤشرات الفرص فيبلغ عددها (13)، بينما تبلغ مؤشرات التحديات ( 16)، وان اغلب نقاط الضعف هي من النوع الخارج على سيطرة الحكومة او عجزت عن وضع حد لها لأكثر من عقدين كاملين مثل: "الفساد الإداري والمالي، وشحة المياه واخطار التصحر والجفاف، وتداخل الصلاحيات بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان العراق، والبطالة، والتدخلات السياسية في عمل مؤسسات الدولة في اطار المحاصصة السياسية". وكذلك الحال مع التحديات كـ " سياسة وواقع حيازة المياه إقليميا، والتجاذبات والصراعات السياسية بين دول المنطقة وبينها وبين بعض القوى الدولية الكبرى، وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وارتباط تأمين السيولة النقدية من العملات الصعبة بعوامل خارجية، وتعامل بعض الدول والمنظمات مع حكومة إقليم كردستان العراق بوصفه كيانا مستقلا".
وفي سياق اطلاع كاتب هذه السطور وخبرته مع فريق اعداد استراتيجية الامن الوطني لسنة 2016، نجد ان مشكلة تنفيذ الاستراتيجية بعد اطلاقها هي وضعها على رفوف المؤسسات الحكومية، فهي لا تشكل بوصلة هادية لها في عملها، بل ان مؤسسات الدولة لا تجد نفسها ملزمة بالعمل كفريق واحد في تنفيذ الاستراتيجية، فيما يتعلق بسياساتها العامة وقراراتها واجراءاتها، فتعمل مؤسسات الدولة وكأنها جزر منعزلة عن بعضها لكل منها إستراتيجيتها وسياق عملها الخاص بها، وغالبا ما تكون المحاصصة السياسية سببا رئيسا في حصول هذا الامر.
فضلا على ما تقدم، تفتقر الاستراتيجية لصفة الشمول، اذ من المفترض ان تكون استراتيجية شاملة للعراق بكامل مساحته الجغرافية ومواطنيه، ولكن هذا الامر لا يحصل، لا سيما في إقليم كردستان العراق. وان ضعف المؤسسات الدستورية الاتحادية، وعدم انفاذ سيادة القانون الاتحادي، ووجود فواعل غير حكومية يعلو صوتها أحيانا على صوت الفاعل الحكومي الرسمي يجعل الإرادة الحكومية الرسمية في تنفيذ الاستراتيجية الوطنية امرا بالغ التعقيد والصعوبة على المستوى الداخلي والخارجي.
ومن المعوقات الأخرى لتنفيذ الاستراتيجية غياب او عدم فاعلية المراجعة الدورية الرسمية لفقرات تنفيذ الاستراتيجية على المستوى الوطني الشامل، وعلى مستوى الاستراتيجيات والبرامج الحكومية الفرعية، ولذا يشكل غياب الرقابة والمساءلة وربط ما ورد في الاستراتيجية بما يجري تنفيذه على ارض الواقع واحد من نقاط الضعف الرئيسة في تنفيذ استراتيجية الامن الوطني العراقي 2025-2030.
إضافة الى ما تقدم، هناك عقبة تكاد تكون مفصلية في تنفيذ الاستراتيجية الجديدة، وهي تغيير القيادات الحكومية، فغالبا ما تجد القيادات الجديدة نفسها غير ملزمة بالاستراتيجيات والسياسات التي بدأتها او عملت عليها القيادات السابقة، وهذا الامر خلق مشكلة دائمة في عمل مؤسسات الدولة العراقية وهي مشكلة عدم التواصل والتكامل في العمل بين القيادات السابقة واللاحقة، وهذا الامر قد يتكرر مع الحكومة الحالية التي لم يبق من عمرها الا اقل من ستة أشهر، وفي حال مجيء حكومة جديدة ربما لن تكون قياداتها ملزمة أخلاقيا بتنفيذ ما ورد في الاستراتيجية، لذا قد تبقيها كمحتوى حكومي معلن، ولكنه محتوى يفتقر الى الاهتمام والتطبيق الفاعل.
وإزاء هذه المعوقات، وغيرها، ربما تكون المصالح العليا الستة، والاهداف الاستراتيجية الخمسة المذكورة في الاستراتيجية الحالية، على أهميتها الحيوية، مجرد حبر على ورق إذا ما واجهت الاستراتيجية نفس المعوقات التي رافقت الاستراتيجيات العراقية السابقة.
اضافةتعليق