كل المعطيات لا تشير الى ان الحكومة العراقية القادمة سيكون لها ذات الدور الروتيني الذي دأبت وحرصت على ممارسته وتبنته الحكومات السابقة. فعدم الوضوح الحاسم في المواقف تجاه القضايا الاقليمية، ومحاولة الحياد تجاه تلك القضايا، في وقت تتبنى جهات غير حكومية مواقف واضحة وغير محايدة، لا يبدوا انه ممكن بعد التغييرات التي شهدتها المنطقة بدءا من الحرب الاسرائيلية في غزة، ومرورا بأضعاف حزب الله في لبنان، وانهيار نظام بشار الاسد الموالي لإيران، وانتهاء بالحرب الايرانية الاسرائيلية في حزيران الماضي.
بعد الجهود الاوربية والاميركية في استئناف العقوبات الاقتصادية على إيران في ايلول الماضي، وطبيعة المواقف المتشنجة للولايات المتحدة واسرائيل تجاه إيران وهدفهما في تحييد النظام الايراني عن لعب اي دور اقليمي ، لم يعد امام العراق خيارات المرونة التي كان يتمتع بها لكونه كان احد اوراق المساومة بين الايرانيين والاميركان ولاسيما في تشكيل نمط السلطة بعد كل انتخابات.
الموقف الاميركي من الدور الايراني في المنطقة واضح جدا وكذلك الموقف الاسرائيلي، وبعد الجهود العسكرية الكبيرة والتكلفة الاقتصادية والعسكرية والسياسية والدبلوماسية التي تحملتها اسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة ، لا يبدوا ان هناك تراجع لديهما عن تحقيق اهدافهما في بناء شرق اوسط جديد واجراء تغيير في المنطقة كما اكد ذلك رئيس الحكومة الاسرائيلية مرارا وتكرارا.
العراق، وبفعل الدور الاميركي، استطاع ان ينأى بنفسه عن الصراعات الاخيرة وان يتجنب الضربات العسكرية الاسرائيلية، وبقي هو الوحيد – من بين مؤيدي المحور الايراني كما تنظر له الادارة الاميركية واسرائيل - بعيد عن معادلة الصراع الشرق اوسطية خلال السنتين الاخيرة. لكن يبدوا ان هذا لن يستمر بفعل التطورات في لبنان والقرار الاسرائيلي والاميركي بضرورة نزع سلاح حزب الله، وخشيتهم من تدخل الفصائل العراقية على خط الصراع القادم والذي قد يعرض العراق الى ضربات عسكرية بفعل زوال الحماية الاميركية.
وخلال الزيارة التي قام بها المبعوث الأميركي الخاص لسوريا توم باراك الى العراق ولقاءه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني. في بغداد يوم الاحد الماضي، نقل باراك التحذيرات الاميركية للحكومة العراقية. اذ اكد دبلوماسي أوروبي في واشنطن لـ " الحرة" إن باراك أبلغ القيادة العراقية أن إسرائيل تخطط لمواصلة عملياتها “حتى نزع سلاح حزب الله”، وأنه إذا شاركت الفصائل الموالية لإيران، مثل كتائب حزب الله، في القتال، فستقوم إسرائيل بضربها من دون أي تدخل أميركي.
وقال الدبلوماسي: " طلب (باراك) من بغداد السيطرة على الفصائل وقطع أي دعم يمكن أن يساعد حزب الله في لبنان. الحياد ليس طلبا.. إنه شرط ". وأضاف الدبلوماسي الذي التقى مسؤولين عراقيين في واشنطن لجو خولي من شبكة MBN إن باراك قال للسوداني: " نخشى إن عملية إسرائيلية ضد حزب الله في لبنان باتت وشيكة، وأن العراق سيواجه العواقب إذا تدخلت ميليشياته".
وينقل عن احد مراكز الدراسات الاسرائيلية، " مع أن إسرائيل ليست متورطة بشكل مباشر في العمليات السياسية والعسكرية في العراق، إلا أنها قد تتأثر بها، كما يتضح من الهجمات الصاروخية والطائرات المسيرة التي شنتها الميليشيات العراقية على أهداف إسرائيلية خلال حرب غزة. ولا يزال هذا التهديد قائمًا، لا سيما في ظل التقارير التي تفيد بتسليح هذه الفصائل في العراق بأسلحة إيرانية متطورة، وبأن إسرائيل تستعد لمحاولات تسلل بري محتملة الى إسرائيل من العراق عبر سوريا والأردن".
ويذكر المصدر ذاته، " بأن الولايات المتحدة تشعر بقلق بالغ إزاء مستقبل الحكم ومصالحها في العراق بعد الانتخابات، وإيران ليست أقل قلقًا. لقد زادت الضربات التي تلقاها المحور الذي تقوده إيران - هزيمة حزب الله في لبنان، وانهيار نظام الأسد في سوريا، وحرب الاثني عشر يومًا بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة في حزيران 2025 - من أهمية العراق الجيوسياسية، لا سيما وأن العراق لم يتضرر تقريبًا من الصراع الإقليمي. وبناءً على ذلك، وفي إطار استعدادها لاحتمال تجدد المواجهة مع إسرائيل والولايات المتحدة، أفادت التقارير أن إيران نقلت صواريخ وطائرات مسيرة متطورة إلى الميليشيات الموالية لها في العراق. والى جانب الضرورة العسكرية، كانت هذه أول انتخابات تُجرى بعد الحرب في إحدى ساحات نفوذ إيران الرئيسية في المنطقة. وهذا وحده يمنح طهران مبررًا لتقوية وكلائها، ودعم تنظيمهم، وتقديم المشورة لهم بشأن كيفية الرد (وأحيانًا كيفية كبح جماح ردهم) على الضغوط والتهديدات الأمريكية ".
وفق هذه الرؤية الاميركية والاسرائيلية تجاه المنطقة، لا يمكن ان تمارس الحكومة العراقية القادمة ذات الدور الحيادي تجاه معادلة الصراع في المنطقة في ظل التهديدات والحرب النفسية والاعلامية بين اسرائيل وإيران ووكلائها. وهذا هو جوهر التحدي القادم. اذ لا بد من رؤية واضحة تجاه هذا الصراع وبما يجنب الدولة العراقية الاستباحة في ظل العنجهية وفائض القوة الاسرائيلية.
وعلى صعيد الاستحقاقات الوطنية، يبرز التحدي الابرز امام القوى السياسية الفائزة في الانتخابات والمؤثرة في تشكيل الحكومة القادمة هو ضرورة حسم الاتجاه ، اما الاتجاه نحو الدولة والمؤسسات والقرار الوطني المستقل سياسيا وامنيا واقتصاديا، او الذهاب نحو الفوضى وتعريض العراق الى مزيد من العقوبات الاقتصادية وربما الضربات العسكرية. وهنا نؤشر التحدي الابرز ، اذ اكد مبعوث الادارة الاميركية مارك سافايا اكثر من مرة على ضرورة ابعاد الفصائل والجهات الموالية والمرتبطة بإيران عن منظومة الحكم القادمة، وهو على غير المعتاد في تشكيل الحكومات السابقة. ويبرز التحدي من ان هذه الجهات الغير مرغوب بها اميركيا قد حصلت على اكثر من ثلث اعضاء مجلس النواب القادم. ولهذا نرى ان القوى المؤثرة بالمشهد السياسي والمتحكمة به ولاسيما قوى الاطار التنسيقي استلمت مضمون الرسالة الاميركية، الا انها لا تدرك خطورة صدها والعمل بما يعارضها.
ويمكن فهم الرؤية الاميركية تجاه المنطقة من خلال الاتي: انه بالرغم من وجود الخط المعتمد على التهديد باستخدام القوة في ازالة التهديدات الامنية من قبل إيران واذرعها في المنطقة للمصالح الاميركية وامن اسرائيل، كما يجري ضد لبنان وإيران ونسبيا مع سوريا، هناك خط موازي تتبناه الادارة الاميركية قائم على المفاوضات وخفض التصعيد ومنح الوقت لمزيد من التفاهمات لإزالة تلك التهديدات ودفع المنطقة الى السلام والاستقرار وهذا الخط واضح نسبيا في سوريا والعراق. والحكومة العراقية مطالبة بدعم هذا المسار عبر بناء مؤسساته الوطنية ، وتعزيز استقلالية قرارة الوطنية بعيدا عن التأثير الايراني داخليا، وعبر دعمه لتفاهمات السلام وخفض التصعيد اقليميا.
لهذا نرى ان وجود حكومة متحكم بها من الكتل السياسية لن يكون ذات جدوى في مواجهة هذه التحديات الغير تقليدية والتي تتطلب قرار سياسيا قويا وحاسما باختيار الاتجاه المناسب الداعم للمصالح الوطنية. وهذا ما ينبغي ان تدركه قوى الاطار التنسيقي في اختيارها لرئيس الحكومة القادمة. فمنهج التحكم والسيطرة على رئيس الحكومة ومؤسسات الدولة لن يخدم المصالح العراقية على المستويات السياسية والامنية والاقتصادية.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!