ندعو السلطات المعنية ومن قبلهم جحافل العلم إلى إجراء المزيد من البحوث العلمية لفهم التأثيرات الحقيقية لهذا النوع من المقطوعات والتعرف على المخاطر المحتملة المرتبطة بها بشكل دقيق، فالوقاية تبدأ بالمعرفة، والعلاج يبدأ بالاعتراف بالمشكلة قبل تفاقمها. كما ندعو السلطات اخيرا الى اخضاع المواقع المشبوهة الى الرقابة المكثفة والحظر لمحتواها الضار بعد تجريمه ومعاقبة من يروج لها
لقد شوهت التقنية الرقمية ملامح الجمال في حياتنا، رغم بعض منافعها، وطغى فوق ركام الآمال والاحلام البريئة سلطان الوهم والخديعة، والتبست في حبائله قيم الخير والشر والجمال بالقبح، وتهاوت تحت وطئ متغيراته أعتى الثوابت، فالتحفت الخطيئة بأبهى الحلل حتى اختل توازن الانسان وفقد بوصلة الصواب. وها هي التقانة الرقمية تنسج لنا – اليوم- من خيوط الوهم أبهى حلل السعادة المزيفة، وتعزف من الحان الخديعة أجمل ترانيم الضياع والذهان والادمان تحت مسمى "المخدرات الرقمية" (Digital Drugs) إذ تقوم بعض المواقع او التطبيقات الالكترونية ببث ترددين مختلفين قليلاً في كل أذن، مما يخلق وهمًا بوجود تردد ثالث في الدماغ. يُعتقد أن هذه الترددات تؤثر على الموجات الدماغية وتُحدث حالات من الاسترخاء أو النشوة، وضعف التركيز أو الهلوسة، والتشنجات، وتسارع التنفس ودقات القلب بعد فترة من الاستخدام، بصورة مشابهة للمخدرات التقليدية.
انها بتوصيف اكثر دقة، تقليعة تقنية جديدة وابتكار شيطاني تجاوز بمكره قيود المادة والكتلة الموصوفة وحدود السيادة والرقابة الامنية واعباء الارادة وقهر القيمة التي وقعت في براثنها المخدرات التقليدية، مستغلا فضول الانسان وفسحة الخصوصية المتاحة له في عالمه الرقمي بعيدا عن الرقابة الاسرية، ومتسلحاً بوهم ما تروجه بعض الآراء (غير العلمية) حول امن وسلامة هذه التقنية الرقمية، كونها لا تنتمي الى فصيلة المركبات الكيميائية المدمرة ولا تركن الى محاذيرها، لتخترق عقل الضحية البشرية عبر نافذتي السمع او البصر مداعبة وجدانه بترانيم او صور متفاوتة التسارع، ولتستحوذ على اهتمامه وولعه حد الارتكاس في دوامة الادمان او الانغماس في العالم الافتراضي، فلا يجد من اسرها فكاكا ولا من سحرها نجاة .
ان حداثة سن هذا النوع من المخدرات (الرقمية) وقلة التجارب حول تأثيراتها ؛ إذ لا يوجد حتى الآن دليل علمي قاطع يؤكد فعالية المخدرات الرقمية في تحقيق التأثيرات المزعومة، ومعظم الأدلة المتوفرة هي قصص شخصية أو ادعاءات تسويقية غير مدعومة ببحث علمي دقيق، قد اوجد الاختلاف العلمي حول اثرها وتأثيرها بين قليل مؤيدٍ بحذرٍ من العلماء يرى أنها مجرد وسيلة ترفيهية، غير ضارة لتحسين المزاج أو زيادة التركيز وتحسين النوم، واغلبية من العلماء تحذر من تحولها إلى أداة إدمان جديدة، خاصة بين الشباب الذين يبحثون عن تجارب غير تقليدية للنشوة والهروب من بؤس الواقع.
تكمن خطورة هذا النوع من المخدرات الرقمية في منطقة من النفس والوجدان لا في خندق البنان، عندما ينساب تأثيرها عبر فسحة متسعة في الزمن لإحداث ضررٍ غائرٍ في النفس البشرية بفعل الايحاء مسبباً، مع الاستخدام المفرط والمنفلت – حالات من القلق والاكتئاب والاضطرابات في النوم والتركيز الى جانب خطر تلف السمع أو طنين الأذن وصولاً الى الادمان وحتى الصرع لدى بعض المستخدمين. وقد يكون ذلك كله بوابة لتعاطي مخدرات حقيقية، خاصة عند عدم تحقيق التأثير المطلوب.
والأنكى من هذا كله صعوبة ان لم تك استحالة حصر ورصد هذا النوع من المخدرات المبثوثة في الفضاء الرقمي بين ملايين المقطوعات الموسيقية التي يصعب قياسها الا باستخدام اعقد التقنيات الصوتية الالكترونية؛ وفوق هذا كله ان دول العالم كلها لم تصل الى مرحلة تجريم هذا النوع من المخدرات، ما خلا بعض الدعوات والمناشدات للتحذير من بعض المواقع، والسبب في ذلك يعود الى استحالة اقامة الدليل او التلبس بالجرم المشهود؛ بل وحتى اثبات الاثر والضرر، مع سابق علمنا بان ضرر هذه المخدرات الرقمية يستغرق وقتاً طويلاً وتعرضاً مكثفاً لهذه المقطوعات الصوتية المخدرة .. فكيف السبيل الى الخلاص منها؟؟؟
أول سبيل الخلاص من هذا البلاء المبين يقع عند منعطف الرغبة والارادة الصلبة من قبل الافراد والسلطات؛ بل ان الإرادة القوية هي أفضل حصانة من كل صور الادمان قبل ان تكون هذه الارادة نفسها علاجاً حاسما لمن فتك به هذا الوباء الرقمي. وبعد الارادة، يأتي الوعي بمخاطر الادمان في هذه المواجهة الشرسة، وهنا يأتي دور الاسرة والمدرسة والاعلام ومنظمات المجتمع المدني لتنظيم حملات توعوية حول (أضرار الإدمان الرقمي وطرق الاصابة به).
ثم يأتي دور الرقابة الذاتية والاسرية والحكومية ليرصد المخاطر ويثبت الحدود وينبه الى المخاطر من امثال هذه الملفات والادمان عليها. ومع الحوار الهادئ البناء وتعزيز القيم الروحية والاخلاقية والقدوة الصالحة في النفس الانسانية، والتشجيع على البدائل الصحية المتوافرة كالتشجيع على ممارسة الرياضة، والتأمل، والاستماع إلى تلاوة من الذكر الحكيم وغيرها من وسائل الاستشفاء الروحي من مصادر معروفة مع توفير الدعم النفسي لمن يعانون من مرار الواقع وجمال العالم الافتراضي كفيل بردع امثال تلك المخاطر الرقمية.
وفي مقام الختام هذا ندعو السلطات المعنية ومن قبلهم جحافل العلم إلى إجراء المزيد من البحوث العلمية لفهم التأثيرات الحقيقية لهذا النوع من المقطوعات والتعرف على المخاطر المحتملة المرتبطة بها بشكل دقيق، فالوقاية تبدأ بالمعرفة، والعلاج يبدأ بالاعتراف بالمشكلة قبل تفاقمها. كما ندعو السلطات اخيرا الى اخضاع المواقع المشبوهة الى الرقابة المكثفة والحظر لمحتواها الضار بعد تجريمه ومعاقبة من يروج لها.
اضافةتعليق