على الحكومة العراقية التحلي بالجرأة الكافية للوفاء بالتزاماتها الدولية، وتنفيذ سياستها الخارجية، واتخاذ القرارات المناسبة للحفاظ على مصالح العراق العليا، وتحسين سمعته الدولية، والوقوف بحزم امام التحركات المضللة التي تحاول اضعافها، وتمزيق وحدة الدولة والمجتمع، فالأوضاع الإقليمية والدولية الراهنة تحمل الكثير من الفرص ليستعيد العراق دوره وزخمه في محيطه الخارجي، وتهاون الحكومة مع المضللين سيحرمه من ذلك، ويبقيه مجرد دولة هامشية لا قيمة لها في وضع وتقرير جدول الاعمال الإقليمي والدولي
ستعقد في بغداد يوم السابع عشر من أيار-مايو القادم القمة الدورية لجامعة الدول العربية على مستوى القادة او من يمثلهم. وعلى الرغم من ان القمة ستجري في ظروف إقليمية بالغة الحساسية والخطورة لتجعلها فرصة سانحة امام العراق لتأكيد دوره وتأثيره الإقليمي، لاسيما العربي، واستثمارها في التوصل الى تفاهمات ثنائية ومتعددة حول كثير من القضايا التي تشغل المنطقة، وخاصة في مجال امن واستقرار دولها، ومواجهة الاجندات المشبوهة التي لا تريد لها الخير، فضلا على ما تشكله من فرصة لحل المشاكل والاختلافات في وجهات النظر، ومد جسور التقارب لتعزيز التعاون الإقليمي في مجالات عديدة الا ان ما شغل الكثير من العراقيين مؤخرا هو مشاركة الرئيس السوري احمد الشرع في القمة، فصدرت من بعض الجهات والافراد دعوات للحكومة العراقية تطالبها بعدم دعوة الشرع الى القمة، ومطالبة القضاء العراقي باعتقاله في حال مشاركته.
هل يمكن للقضاء العراقي اعتقال الشرع؟
احمد الشرع اليوم لم يعد ينُظر اليه كعضو في تنظيمات القاعدة وداعش وجبهة النصرة، بل هو رئيس لدولة مستقلة ذات سيادة هي الجمهورية العربية السورية، وقد جرت العادة في القانون الدولي العرفي المعمول به منذ وقت طويل على ان قادة الدول، ومن يمثلهم، سواء كانوا ملوكا ام رؤساء ام امراء، يتمتعون بالحصانة الكاملة، ولا يشملهم الاختصاص القضائي للقضاء الوطني، وتنبع حصانتهم من كونهم يمثلون دول ذات سيادة، فهم يشكلون امتداد لسيادة دولهم في المحيط الدولي، ولذا هم محصنون امام الاعتقال او التقييد او أي مظهر من مظاهر الإساءة لهم.
وفضلا عن المقام السامي لقادة الدول، وعلويته على مقام المبعوث الدبلوماسي على مستوى التحديد القضائي والمكاني، فانهم يتمتعون حكما بكافة الامتيازات والحصانات التي يتمتع بها المبعوث الدبلوماسي، كالحصانة من المساءلة القانونية، والحصانة الشخصية وحصانة المراسلات، وحرمة مقر الإقامة، وغيرها من الحصانات المنصوص عليها في اتفاقية فيينا للبعثات الدبلوماسية لسنة 1961، إضافة الى الحصانات التي اكدت عليها اتفاقية البعثات الخاصة لسنة 1969.
كما أن الشرع بصفته عضوا في مجلس جامعة الدول العربية عندما يعقد المجلس جلساته على مستوى القمة، فهو -أيضا- مشمول بالحصانة التي أشار اليها ميثاق الجامعة في المادة (14)، والعراق بصفته عضوا في هذه الجامعة ملزم بتطبيق بنود الميثاق وعدم الخروج عليها.
اما تفعيل موضوع المساءلة التي يتحدث عنها البعض لقادة الدول فتتطلب تحريك دعاوى امام المحاكم الدولية ذات العلاقة، كالمحكمة الجنائية الدولية، على ان تُثبت المحكمة ارتكابهم لأحدى الجرائم الخطيرة كجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والابادة الجماعية لتحريك الدعوى بشأنهم...ومع ذلك لا زالت المحاكم الدولية تفتقر للقوة الكافية لتطبيق احكامها على المشمولين بأحكامها، بسبب ارتباط تنفيذ هذه الاحكام بإرادة الدول، وشرط انتمائها للمحكمة وامور أخرى كثيرة.
وعليه، لا يملك القضاء العراقي الحق في اعتقال الشرع ومحاكمته، فالموضوع خارج ولايته، والدعوات التي تطالب القضاء بالتحرك ما هي الا دعوات حماسية تفتقر الى الأساس القانوني المتين.
الاضرار بمصالح العراق وسمعته الدولية
ان الحديث عن اعتقال الشرع يضر بمصالح العراق الخارجية وسمعته الدولية، بصرف النظر عن الأساس الأخلاقي لهذا الحديث، فالعراق دولة مستقلة وذات سيادة، وهو عضو في جامعة الدول العربية، وقد مر -منذ سقوط حكم صدام حسين الى الوقت الحاضر- بتقلبات كثيرة تقتضي منه اليوم مراجعة سياسته الخارجية، مرتكزا في ذلك على قاعدة المصالح المتبادلة مع دول العالم، لا سيما الدول العربية، فتعزيز التقارب العراقي-العربي، والعراقي-الدولي يصب في مصالح البلد العليا، ويساعده على تهدئة المخاوف الخارجية بشأنه، ويخلق الشراكات المختلفة بين الجانبين – امنيا واقتصاديا وسياسيا واجتماعيا- في وقت لا يقوى العراق بمفرده على مواجهة كثير من هذه الملفات.
وعليه، عندما تبدي الحكومة العراقية رغبتها الرسمية باستضافة القمم والمؤتمرات، والوفاء بالتزاماتها امام المنظمات الإقليمية والدولية، وتُعرب عن استعدادها لتحسين العلاقات الثانية (العراقية-السورية) والمتعددة (العراقية-العربية)...الخ وتظهر في نفس الوقت قوى وشخصيات تعارض التوجه الرسمي للدولة، وتهدد بالقيام بتظاهرات او فعاليات تسيء الى الأعراف والمواثيق الدولية، فان ذلك يبعث برسالة سيئة للغاية للعالم حول قدرة الحكومة العراقية في الوفاء بالتزاماتها، وإعطاء ادلة دامغة حول هشاشة الوضع الأمني والسياسي للدولة العراقية، وتعدد مراكز صنع القرار السياسي فيها، والنتيجة هي اضرار متعمد بمصالح العراق وسمعته الدولية سينعكس سلبا على قوة العراق وتأثيره في السياسة الدولية.
البعد السياسي لقضية الشرع
بالانطلاق من حقيقة ان الشرع لا يمكن اعتقاله من قبل القضاء العراقي، وان اثارة الموضوع بهذا الشكل يلحق اضرارا بمصالح العراق وسمعته الدولية، يتضح ان للقضية ابعادا أخرى لا ترتبط بمقتضيات العدالة، وتهدف الى تضليل الرأي العام العراقي، وتعبئته ضد الحكومة وسياساتها الخارجية، لثلاثة اسباب:
الأول-انتخابي والقصد منه تسقيط الحكومة، لاسيما رئيس الوزراء الحالي امام الناخب العراقي بإظهاره بمظهر من تخلى عن دماء الشهداء، وتعاون مع قتلتهم، لضمان اضعاف حظوظه في الانتخابات القادمة.
الثاني-إعاقة سياسة الحياد والتوازن الإقليمي والدولي التي تنتهجها الحكومة الحالية، ومحاولة وضع العقبات والعراقيل امام انفتاحها الخارجي على المحيط العربي، لوجود أطراف داخلية وخارجية لا ترغب بهذا الانفتاح وتراه تهديدا لمصالحها واجنداتها التي تعمل عليها.
الثالث- اضعاف الدولة وسيادة القانون، فهناك من يرى ان حالة التشتت والهشاشة والرخاوة في مفاصل الدولة والمجتمع في العراق تخدم مصالحه، وان قوة الحكومة في سياستها الخارجية، وفعالية مؤسساتها الدستورية في الداخل، وامساكها بزمام المبادرة سيلحق ضررا بهذا المصالح، ولذا لا يدخر أمثال هؤلاء جهدا دون اثارة المشاكل للسلطة، وتمزيق وحدة المجتمع وتعبئته بشعارات ومخاوف مختلفة.
صفوة القول: على الحكومة العراقية التحلي بالجرأة الكافية للوفاء بالتزاماتها الدولية، وتنفيذ سياستها الخارجية، واتخاذ القرارات المناسبة للحفاظ على مصالح العراق العليا، وتحسين سمعته الدولية، والوقوف بحزم امام التحركات المضللة التي تحاول اضعافها، وتمزيق وحدة الدولة والمجتمع، فالأوضاع الإقليمية والدولية الراهنة تحمل الكثير من الفرص ليستعيد العراق دوره وزخمه في محيطه الخارجي، وتهاون الحكومة مع المضللين سيحرمه من ذلك، ويبقيه مجرد دولة هامشية لا قيمة لها في وضع وتقرير جدول الاعمال الإقليمي والدولي.
اضافةتعليق