ظاهرة اللجوء الى الغيب ليست مجرد تراث شعبي اعتيادي، وانما هي مرض نفسي متأصل، وعوق عقلي خطير؛ لأنها تؤثر على السلوك المجتمعي وتضعف روح المبادرة والمساءلة الذاتية، خاصة حين تُستخدم لتبرير الفساد، أو التقصير الإداري، أو الفشل السياسي. ان التصدي لهذه الظاهرة لا يعني بالضرورة محاربة الموروث الديني أو الثقافي، بل العمل على إعادة تشكيل الوعي الجمعي عبر التعليم الصحيح، والنقد الثقافي البناء، وتعزيز التفكير العلمي، فالمجتمع الذي يربط بين الفعل ونتيجته هو مجتمع قادر على التغيير، بينما المجتمع الغارق في الغيبيات، يبقى حبيس ماضٍ يرفض مواجهة حاضره
يُعد الميل إلى الغيبيات ظاهرة عميقة الجذور في المجتمعات التقليدية، ومنها العراق، حيث تلعب المعتقدات الشعبية دورًا مهما في تفسير ما لا يمكن تفسيره بسهولة. غير أن هذه الظاهرة، حين تغدو نمطًا شائعًا في مواجهة الإخفاقات تؤدي إلى تكريس التواكل وتغييب الفعل الواعي، وهذا للأسف ما يسود في الثقافة الشعبية العراقية، فما يلفت الانتباه في هذه الثقافة هو لجوئها المفرط الى الغيب لتبرير الإخفاقات التي يمر بها الناس، في الوقت الذي يمكن تفسيرها بإعادتها الى جذورها الإنسانية الطبيعية من خلال إدراك عقلي ناقد وفعال، ولكن يجري تغييب هذا الادراك لمصلحة التفسير الغيبي، ولذا يحاول العراقي غالبا ارجاع حدوث الكثير من المشكلات اليومية إلى قوى غير مرئية مثل "الحسد"، أو "السحر"، أو "القدر"، بدلاً من البحث عن أسبابها الاجتماعية والسياسية المباشرة، ومثل هذا الميل نحو الغيبيات غالبًا ما يتحوّل إلى وسيلة للهروب من تحمل المسؤولية الفردية أو الجماعية.
لقد اسُتعملت التفسيرات الغيبية كذريعة لتبرير الفشل أو الإخفاق، سواء على مستوى الأفراد أو الدولة. فعلى سبيل المثال، عند فشل مشروع زواج او مشروع دراسة او مشروع اقتصادي صغير او عند ارتكاب جريمة ما، او غيرها لا يقال: ان العروسين لم يكونا مؤهلين للزواج ولم يجدا بيئة عائلية واجتماعية داعمة، وان الطالب فشل لأنه كان بحاجة ال المزيد من الكفاح، وان المشروع الاقتصادي لم يكن مناسبا او ان الظروف التي جرى تنفيذه فيها لم تكن مشجعة، وان المجرم آثم ويستحق العقاب... بل على العكس تسمع الكثير من التفسيرات التي تربط هذه الامور بالغيب، كأن يقال: " ماكو قسمة ونصيب"، او " كصته/ها فكر، أي بمعنى منحوس/ة"، أو " محسود/ه"، أو " ما عنده بخت"، أو " الله كتبها عليه"، وهكذا يبحث معظم العراقيين عن حلول لمشاكلهم عند " العرّافين وفتّاحين الفال"، او " المقامات الدينية"، او برفع " ام سبع عيون او فردة حذاء" في بيوتهم ومحلاتهم وعجلاتهم بدلا من محاولة دراسة ومعالجة الأسباب الحقيقية المباشرة لها، وتلافي حصولها.
وما يزيد الطين بلة هو امتداد التفسير الغيبي من المستوى الاجتماعي الى مستوى الشأن العام، فتجد عامة الناس، وكثير من نخبهم لدى مواجهتهم تدهور السياسات العامة لحكوماتهم وقياداتهم السياسية لا يبحثون عن سبل معالجة هذا التدهور من خلال تغيير السياسات والقيادات واختيار ما هو اصلح منها، بل يذهبون الى تبرير التدهور بـ"الابتلاء الإلهي"، أو " القضاء والقدر"، متجاهلين حقيقة ان هناك الكثير من الأمم والشعوب مرت بما هو أسوء من ظروفهم واستطاعت بكفاحها ووعيها وارادتها الصلبة تغيير واقعها الى ما هو أفضل دون ان يتحكم بمصيرها " الابتلاء الإلهي"، أو "القضاء والقدر".
لقد ساعدت ظاهرة التفسير الغيبي لما يجري في الشأن العام العراقي الى حد بعيد على ترسيخ عقلية الاستسلام بدل التحليل والنقد والتغيير البناء. وعند تفسير أسباب هذه الظاهرة نجد انها تعود إلى قرون من التهميش السياسي والاضطرابات الاجتماعية، إذ لجأ الناس عبر التاريخ إلى الغيبيات كآلية دفاع نفسي في مواجهة واقع قاسٍ يتسم بالقهر واللايقين، وتم تناقل هذه الثقافة من جيل الى آخر بسبب استمرار حالة التهميش والاضطراب، وغياب دور النخب المؤثر في الاسهام الفعال في تغيير الثقافة السائدة وتحويلها من ثقافة غيبية مستسلمة الى ثقافة نقدية واعية ومبادرة، فضلا عن وجود بعض الفئات والقيادات التي عملت على استدامة هذه الظاهرة؛ لأنها تخدم مصالحها، وامتيازاتها، وتتناسب مع رؤيتها للذات والآخر، والسلطة والمجتمع، والكون والحياة.
ولكن ظاهرة اللجوء الى الغيب ليست مجرد تراث شعبي اعتيادي، وانما هي مرض نفسي متأصل، وعوق عقلي خطير؛ لأنها تؤثر على السلوك المجتمعي وتضعف روح المبادرة والمساءلة الذاتية، خاصة حين تُستخدم لتبرير الفساد، أو التقصير الإداري، أو الفشل السياسي. ان التصدي لهذه الظاهرة لا يعني بالضرورة محاربة الموروث الديني أو الثقافي، بل العمل على إعادة تشكيل الوعي الجمعي عبر التعليم الصحيح، والنقد الثقافي البناء، وتعزيز التفكير العلمي، فالمجتمع الذي يربط بين الفعل ونتيجته هو مجتمع قادر على التغيير، بينما المجتمع الغارق في الغيبيات، يبقى حبيس ماضٍ يرفض مواجهة حاضره، ولذا فان بناء ثقافة مسؤولة يبدأ من الاعتراف بأن الإنسان هو العنصر الفاعل والمؤثر في مجتمعه، وأن التقدم لا يتحقق بالدعاء فقط، بل بالفعل، والتخطيط، والمحاسبة.
اضافةتعليق