الانتخابات التشريعية القادمة في العراق بين ظاهرتي المقاطعة والاغتراب السياسي

شارك الموضوع :

لترسيخ النظام أو البناء الديمقراطي في العراق یحتاج إلى تحولات عمیقة، ومن أهمها تثبیت مبدأ المواطنة بكل دلالاتها كحق لأفراد المجتمع؛ مما یمكنهم من المشاركة في العملیة السیاسیة، وبالتالي فإن غیاب هذا المبدأ أو محاولة تغییبه أو تهميشه، سوف ینعكس سلبًا على أي محاولة لبناء نظام دیمقراطي أكثر استقرارًا. فضلًا عن الاغتراب السياسي، الذي يعد من اهم الآثار المترتبة على العزوف الانتخابي، إذ يتولد شعور لدى اغلب المواطنين، ولاسيما عند فئة الشباب، حالة من اليأس وفقدان الأمل من القدرة على احداث تغيير سياسي أو حكومي أو في نتائج الانتخابات

تعد المشاركة السیاسیة من المواضيع المهمة والأساسية في مجال العلوم السیاسیة، إذ حظي الموضوع باهتمام كبیر على المستویین النظري والتطبیقي؛ وذلك لما لها من تأثير كبير في إرساء البناء المؤسسي للدولة. كما تعد إحدى دعامات المواطنة عن طریق دعم مساهمة المواطنین في المشاركة السياسية والخیارات السیاسیة العامة. ويعد التصويت أو الانتخابات، أهم وأوسع أشكال المشاركة السیاسیة؛ وذلك لما يتوافر عليه من ممارسة عملية تمكن الفرد من تثبيت وترسیخ العملیة الدیمقراطیة. 

إنَّ شعور الفرد أو المواطن بالإقصاء والتهمیش وعدم مشاركته في إبداء رأیه في تحديد قضایاه الاجتماعیة والاقتصادیة والسیاسیة، تدفعه إلى العزلة السياسية واحتقاره للحكومة ومؤسساتها وأحزابها، وتجعل منه شخص لا یبالي بالحیاة السیاسیة؛ وذلك بوصوله إلى قناعة بأن اختياراته أو مشاركته الانتخابية لا يمكنها أن تؤثر في رسم السیاسات العامة أو تطوير الاداء الحكومي واداء الاحزاب السياسية، وتضعه أمام حالة أقرب إلى حالة »الاغتراب السياسي«، سواء فيما يتعلق بحقوقه كمواطن أو واجباته العامة. وهذه الحالة أو الظاهرة أصبحت تشهد اتساعًا، واخذت تستفحل بين المجتمعات أو الدول، ولاسيما في الدول ذات الانظمة السياسية الهجينة، أو تلك الانظمة التي تجمع بين النظامين »الديمقراطي والأوتوقراطي« أو بين »الديمقراطية والسلطوية« وهي الانظمة التي تأخذ بممارساتها وادواتها الديمقراطية من النظام الأرستقراطي، وتكون فيها نتائج الانتخابات في الغالب غير مؤثرة في عملية تشكيل الحكومات، وأن تأثيرها السياسي محدود، إذ تبقى التوازنات والاوزان السياسية والتوافقات والمحاصصة، الفيصل في تشكل الحكومات. وأن صنع القرار، والتأثير السياسي، يبقى مرهونًا بيد القوى السياسية الكبيرة أو التقليدية، بغض النظر عن نتائج الانتخابات، وكأن الأخيرة، تأتي لتجديد الشرعية لتلك الاحزاب والقوى السياسية، وأن دور المواطن يقتصر على الانتخاب فقط من دون التغيير، وأن فرصته في التغيير السياسي تكاد تكون معدومة تمامًا، سواء من خلال التمثيل او من خلال الانتخاب. 

إذ تعكس التجربة السياسية العراقية بعد عام 2003، وطبيعة النظام السياسي القائم، أو النموذج السياسي الذي اخذ به العراق بعد التغيير ، حالة تلك الانظمة السياسية الهجينة إلى حدًا بعيد. فقد شهد العراق خمسة دورات تشريعية نيابية، فضلًا عن الانتخابات المحلية »انتخابات مجالس المحافظات« والاستفتاء على الدستور العراقي النافذ لعام 2005، وقد تباينت نسب المشاركة السياسية في جميعها، وأخذت بمنحى تنازلي، ولاسيما إذا ما قارنا اول دورتين انتخابيتين بآخر دورتين انتخابيتين؛ لذا تشير التوقعات بأن الانتخابات التشريعية المقبلة، ستشهد نسب مشاركة متدنية جدًا، ولاسيما أن الانتخابات القادمة، ربما تختلف عن الانتخابات التشريعية السابقة؛ ليس لأنها محكومة بظاهرة العزوف الانتخابي – الظاهرة التي كانت بمثابة القاسم المشترك بين كل الدورات الانتخابية – وإنما لكونها محكومة بثنائية العزوف الانتخابي والمقاطعة، ولاسيما مقاطعة التيار الصدري وحركات تشرين وغيرها من القوى السياسية، فضلًا ظاهرة الاغتراب السياسي، وفقدان حالة الثقة في العملية الانتخابية، اللتان اخذتا تضرب كل فئات المجتمع »المتعلمة وغير المتعلمة«. 

ولعل الانسحابات الأخيرة من سباق الانتخابات البرلمانية العراقية تعكس افتقاد العديد من الأطراف السياسية للثقة في قدرة العملية الانتخابية على إحداث أي تغييرات جوهرية أو تحقيق إصلاحات فعلية ضمن طبيعة النظام الحالي في البلاد. فالنظام السياسي القائم، وفقًا لتحليلات بعض المتخصصين والمتابعين للشأن العراقي، انحرف عن نهجه الديمقراطي وأصبح يرتكز على سلطة يغلب عليها الفوضى وغياب الرؤية الواضحة. وأن انسحاب تحالف النصر بقيادة رئيس الوزراء الأسبق السيد »حيدر العبادي« من السباق الانتخابي، يدخل في هذا السياق، كاحتجاج صارم على تأثير المال السياسي وانتشار الظواهر التي تُعطِّل تحقيق الشفافية والعدالة في العملية الديمقراطية، في ظل غياب الأدوات القادرة على التحكم وتأطير تلك الظواهر.

بالتالي، ستكون هناك نتائج وتداعيات، من شأنها أن تؤثر على مستقبل النظام السياسي القائم، والعملية السياسية الجارية في البلاد منذ عام 2003 بشكل عام، ولاسيما مع استمرار مقاطعة التيار الصدري – التيار الأكثر جماهيرية وشعبية – في البيئة الشيعية. وسياسيًا يمثل توازنًا أمام القوى التقليدية الحاكمة، وأن غيابه قد يؤدي إلى اختلال في ميزان القوى داخل البرلمان، وبالتالي فقدان المعارضة، أو أن تكون السلطة التشريعية مختلة وغير قادرة على اخذ دورها التشريعي والرقابي بشكل حقيقي، كما هو الحال في الدورة التشريعية الحالية. هذا الاختلال العام في النظام السياسي وسلطاته وادواته الانتخابية، قد يترتب عليه تداعيات من شأنها أن تلقي بضلالها على الوضع العام في البلاد، حتى وأن تم تجاوز الانتخابات وتنظيمها. ولعل من أبرز تلك التداعيات، التي من شأنها أن تهدد النظام السياسي، هي الشرعية المنقوصة، الناتجة عن مقاطعة الانتخابات والعزوف السياسي. فهناك مؤشرات يمكن من شأنها أن تعطي الشرعية لأي نظام سياسي، كالمشاركة السياسية الفاعلة ودورها في إرساء البناء المؤسساتي للدولة، وهي بذات الوقت تعد عائقًا حقیقیًا أمام عملیة التنمیة السیاسیة. وأنَّ ضعف المشاركة السياسية أو تدنيها قد يضعف شرعية النظام السياسي (محليًا وخارجيًا). وغياب الشعور بالمواطنة، إذ یشكل مبدأ المواطنة ركیزة أساسية للمذهب الدیمقراطي والتنمیة الإنسانیة وأساس عملیة الاندماج الوطني في بناء الدولة القومية الحدیثة والمدخل إلى إرساء نظام حكم دیمقراطي حقيقي. ولترسيخ النظام أو البناء الديمقراطي في العراق یحتاج إلى تحولات عمیقة، ومن أهمها تثبیت مبدأ المواطنة بكل دلالاتها كحق لأفراد المجتمع؛ مما یمكنهم من المشاركة في العملیة السیاسیة، وبالتالي فإن غیاب هذا المبدأ أو محاولة تغییبه أو تهميشه، سوف ینعكس سلبًا على أي محاولة لبناء نظام دیمقراطي أكثر استقرارًا. فضلًا عن الاغتراب السياسي، الذي يعد من اهم الآثار المترتبة على العزوف الانتخابي، إذ يتولد شعور لدى اغلب المواطنين، ولاسيما عند فئة الشباب، حالة من اليأس وفقدان الأمل من القدرة على احداث تغيير سياسي أو حكومي أو في نتائج الانتخابات؛ نتيجة انعدام فرص حالة التغيير السياسي من خلال المشاركة في الانتخابات. لذا فأن الانتخابات القادمة، ستكون محكومة بهذا الثنائية، وستؤثر على نتائجها أيضًا.

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية