الاقتصاد والسلم المجتمعي

شارك الموضوع :

ان مؤشرات الرفاه الاقتصادي المتوفرة حاليا عن العراق، قد لا تجعل بلدنا الاسوأ بين بلدان العالم، ولكنها تبقيه وطنا ومواطنا في دائرة الخطر الحمراء، وبدون الانتباه لها وتدارك مخاطرها ستكون عواقبها مؤسفة في المستقبل

قيل قديما: " لولا الخبز ما عُبٍد الله"، كما قيل: " إذا ذهب الفقر الى مكان قال له الكفر: خذني معك"، وهذه المقولات ليست مجرد كلمات عابرة، بل هي خلاصة حكمة ودراية الماضين من الأمم والشعوب، وكما ان الله سبحانه وتعالى يمثل الخير المطلق في الوجود، لذا ينبغي عدم فهم عبادته بمعنى معرفته وتوحيده فقط، بل ينبغي فهمها بما نسميه اليوم بـالخير العام. والخير العام مفهوم أكبر من حدود المعرفة والتوحيد؛ لأنه يكشف المقاصد الكامنة ورائهما، وبالنتيجة تحقيق غاية الوجود الإنساني في الأرض، ولذا ارتبط الخير العام بمظاهر إيجابية عديدة كالحرية، والعدالة الاجتماعية، والمساواة، والعلم النافع، والعمل الصالح، والوحدة والتماسك الاجتماعي، والكرامة الإنسانية وغيرها.

وكذلك الحال مع الكفر لا يُفهم بحدود عدم معرفة الله وتوحيده، بل بما هو أعمق من ذلك، فكما ان الله هو الخير المطلق، فان ما يخالف الخير المطلق هو الشر المطلق، والشر هنا سيتجلى-أيضا- بمظاهر عديدة كالظلم، والفقر، وغياب الشعور بالعدالة، وخطل التفكير، وسوء القول والفعل، والتنابذ والانقسام الاجتماعي وغيرها.

وعليه، تجد ان الكثير من الشعوب في الماضي والحاضر لديها قدر لا بأس به من معرفة الله وتوحيده، بل بعضها يدور وجودها حول هذا الامر، ولكنها -للأسف – تفتقر الى الخير العام في حياتها، وتأن من الشر الذي يلفها، فهي غارقة في الصراعات المدمرة، والانقسامات المفرقة، وتتعرض كرامتها الإنسانية لشتى مظاهر الافساد والاهانة والتدنيس، مما يعني عدم ادراكها لمقاصد معرفة الله وتوحيده، او جهلها بالمسارات المطلوبة لبلوغها، لماذا؟ 

تكمن الإجابة كما فهمها الحكماء القدماء في مفردتي الخبز والفقر، وهم لم يقصدوا بهاتين المفردتين مجرد الطعام الذي يشبع الجائع، بل قصدوا ما نسميه بلغة عصرنا بـالرفاه الاقتصادي، فالرفاه يرتبط بكل مفاهيم الخير العام المشار اليها في أعلاه، ولذا يتناسب مستواه تناسبا طرديا مع شعور الافراد والمجتمعات بالسعادة، فكلما ارتفع مستوى الرفاه زاد الشعور بالسعادة.

لقد اقترن الحديث عن الرفاه الاقتصادي بمؤشرات عديدة تعكس مقدار تطور المجتمع ورقيه الحضاري، كـ: مستوى الدخل الفردي والعام، والتعليم، والصحة، وجودة مظاهر الحياة فيما يتعلق بوسائل النقل والمواصلات، وحماية البيئة، والسكن اللائق، والمساوة في الفرص، ومدى انشغال الحكومات بخدمة مواطنيها، وتحقيق سيادة القانون، وفعالية إجراءات التقاضي، وقوة المؤسسات الدستورية ... مما يعني ان الرفاه الاقتصادي يعبر تعبيرا دقيقا عما يُطلق عليه بالتنمية المستدامة، وهو يمثل رزمة متكاملة كلما ارتفعت مؤشراتها الإيجابية ارتفعت معها سعادة الانسان وثقته بنفسه ومجتمعه وحكامه وسلطات بلاده، والعكس صحيح.

ان انخفاض مستوى الرفاه الاقتصادي ينبغي أن يكون محل عناية واهتمام الحكومات وصناع القرار؛ لأنه ينذر بمشاكل خطيرة للغاية، فارتفاع مؤشرات الشعور بالظلم، وغياب العدالة، والفجوة الطبقية، والفقر، والبطالة، وسوء التعليم والصحة، وعدم المساواة امام القانون، والفساد، وتردي متطلبات جودة الحياة الأخرى تمثل صندوق باندورا الذي يفتح كافة الشرور كـ: التطرف والإرهاب، والعنف والجريمة، والتفكك الاسري، والتنابذ الاجتماعي، وغياب الثقة بالنفس والأخر...مما يخلق بيئة خصبة لتدمير المجتمع والدولة بشكل تدريجي مستمر.

لقد اقترن ارتفاع مستوى الرفاه الاقتصادي في الدول بارتفاع مستوى تقدمها الإنساني والحضاري، لتبدو أكثر قوة ونشاطا ووحدة، فيما تواجه شعوبها مشاكلها وازماتها بمستوى عال من الاقتدار والتعاون والتماسك، بل ان تجربة دول الخليج العربي الغنية بالنفط-على الرغم من بعض اخفاقاتها- اثبتت خلال مرحلة ما يسمى بالربيع العربي (2010-2012) ان ارتفاع مستوى الرفاه الاقتصادي لشعوبها ساعدها كثيرا على عدم سقوط أنظمتها ودخولها بمستنقع العنف والفوضى الذي دخلته دول أخرى كمصر واليمن وسوريا وليبيا وغيرها.

وعراقيا تبدو مؤشرات الرفاه الاقتصادي مقلقة وتتطلب المزيد من الاهتمام والتحليل والمعالجة؛ لتجنب تداعياتها المستقبلية، فوفقا للبيانات التي كشفها التعداد العام الأخير للسكان (2024-2025)، والمسح الاجتماعي والاقتصادي للأسرة العراقية (2023-2024) الصادرين عن وزارة التخطيط العراقية يعاني العراقيون من أزمة سكن تبلغ 27.86% من مجموع السكان، فيما يفتقر 13.18% الى خدمات الماء الصالح للشرب، وتغيب خدمات الصرف الصحي العمومية عن 50.55%، وخدمات البلدية في جمع النفايات عن 47.64%. اما معدل البطالة فيصل الى 13.5%، والمعاناة من امراض مزمنة 15.2%، والفقر 17.5 %، أي ان من بين كل ثلاثين عراقيا هناك خمسة عراقيين تحت خط الفقر. 

وهذه النسب الرسمية المعلنة تمثل رأس جبل الجليد في تراجع مؤشرات الرفاه الاقتصادي، فهناك نقص في بيانات أساسية أخرى تتعلق بحجم الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ومقدار الشعور بالظلم، وغياب العدالة، والثقة بالنفس والأخر، وبالتالي الشعور بالسعادة، ولذا تبدو أجراس الإنذار عالية من خلال ما تتناقله المؤسسات الإعلامية والحكومية من بيانات عن مستويات العنف والجريمة، والتفكك الاسري، والانحراف الفكري وما شابه.

ان اهتمام الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية العراقية، فضلا عن بقية صناع القرار بمراقبة مؤشرات الرفاه الاقتصادي لدي العراقيين وإيجاد الحلول لها يجب ان لا يتم اهمالها، عملا بما أدركته معظم دول العالم الراغبة في الحفاظ على امنها واستقرارها، وحماية سلامة نسيجها الاجتماعي، مدركة ان بناء الانسان هو اللبنة الأساسية في بناء الدولة، وتحقيق الامن والسلم المجتمعي.

وبكلمة موجزة: ان مؤشرات الرفاه الاقتصادي المتوفرة حاليا عن العراق، قد لا تجعل بلدنا الاسوأ بين بلدان العالم، ولكنها تبقيه وطنا ومواطنا في دائرة الخطر الحمراء، وبدون الانتباه لها وتدارك مخاطرها ستكون عواقبها مؤسفة في المستقبل. 

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية