ان طوق نجاة الأمم والشعوب يكمن في تحالف المثقف النزيه مع النخب الصالحة، ذلك التحالف الذي يقوم على أساس احترام القيم الأخلاقية العليا، وخدمة المصالح العامة، وصيانة الكرامة الإنسانية؛ لتتحول الدولة عندها من دولة الحاكم بأمره الى دولة الحق والقانون والمؤسسات الدستورية الفاعلة
يعد الحديث عن دور المثقف في بناء الدولة والمجتمع موضوعا شائكا ومعقدا، لكنه في الوقت نفسه بالغ الأهمية ويدعو الى المزيد من البحث والتحليل؛ لأنه يتناول البعد الثقافي التنويري، ونمط التفكير السائد، والنزعة الأخلاقية والابداعية التي توجه حركة المجتمع.
لقد اختلفت الكتابات حول دور المثقف، فهناك من ارتقى به الى مرتبة "الأنبياء غير الموحى إليهم"، كما نراه في مفهوم "المثقف العضوي" لأنطونيو غرامشي، أو "المثقف الملتزم" عند إدوارد سعيد. وفي المقابل ظهر نموذج "المثقف الخائن" او "واعظ السلطان"، كما وصفه جوليان بندا وعلي الوردي وغيرهم. وقد لعب المثقف كلا الدورين في مراحل تاريخية مختلفة.
في هذه المقالة لن نتطرق الى الدور الإيجابي للمثقف، وانما سيقتصر الحديث على دوره المظلم عندما يخلع ثوب النزاهة والالتزام الاخلاقي ليرتدي ثوب الخيانة والتزلف بتحالفه مع النخب الفاسدة التي تتحكم في مفاصل المجتمع، وما يترتب على هذا التحالف من نتائج كارثية.
تعود فكرة المثقف الخائن الى ما كتبه المفكر الفرنسي جوليان بندا في كتابه الشهير " خيانة المثقفين" والمنشور سنة 1927. اذ رأى بندا ان المثقف يكون خائنا بتخليه عن القيم الأخلاقية الكبرى مثل: الحق، والعدل، والحرية، والحقيقة وهي المبادئ التي اعتبرها "مبادئ كونية"، وقبوله ان يكون " قلما مأجورا" في خدمة السلطة، فتكون النتيجة تحالفا فاسدا بين مثقف باع قلمه، وسلطة اشترته لتحقيق مآربها، فتغدق السلطة على المثقف بالامتيازات والمناصب والتصدير الإعلامي، وبالمقابل يقوم هو بتبرير وتزيين أفعالها، بصرف النظر عن مدى انسجامها مع المبادئ والقيم. وهنا تتجاوز خيانة المثقف صمته عن قول الحق، لتشمل انحيازه النشط الى جانب الباطل، مما يجعل وقوفه الى جانب السلطة الفاسدة شكلا سافرا من اشكال التضحية بالضمير الأخلاقي.
ان التحالف بين المثقف الخائن والنخب الفاسدة له ارتداداته الخطرة على أمن وسلامة الدولة والمجتمع، فهو ليس مجرد علاقة مصالح، بل هو مشروع لتزييف الوعي العام، تتضح مخاطره بما نجده من ربط مخيف بين هلاك المجتمع وخضوعه لسطوة النخب الفاسدة في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا" (سورة الاسراء: 16). وقوله تعالى:" وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ..." (سورة الانعام: 123). وقوله تعالى:" وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ" (سورة الزخرف: 23).
فهذه الآيات وغيرها تكشف وجود علاقة مباشرة بين وجود النخب الفاسدة "المترفون"،" الاكابر"، وبين جمود المجتمع، وخفوت روح الابداع فيه، ورفضه القيم الأخلاقية، مما يقربه من السقوط في الهاوية.
اما المثقف الخائن فجرى الإشارة اليه-أيضا- في آيات عديدة من النص القرآني، منها قوله تعالى:"...إنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" (سورة التوبة: 34). وقوله تعالى:"مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا" (سورة الجمعة:5).
ويظهر من سياق هذه الآيات طبيعة الخيانة التي يرتكبها المثقف بحق نفسه والمجتمع، عندما يدس رأسه في تراب الاهواء، ويتخلى عن دوره ومسؤوليته.
ان التحالف الفاسد بين المثقف الخائن والنخب الفاسدة، كما ذكرنا أنفا، يعجل بانهيار المجتمع والدولة أخلاقيا وسياسيا، اذ يجري تزييف الوعي العام لصالح الكذب والتضليل، وحرف بوصلة المصالح لصالح أصحاب السلطة والنفوذ، كما يتحول الاتجاه العام لنمط التفكير من الاتجاه النقدي الكاشف للحق والحقيقة الى الاتجاه التبريري المدافع عن الظلم والفساد، بل وتمجيده أحيانا، وهذا الامر لا غرابة فيه ابدا، فعندما يتحول المثقف حسب تعبير الكاتب محمد عبد المجيد قباطي من كونه "ضمير الأمة الى ظل السلطة"، لاسيما السلطة التي تقودها نخب فاسدة، فأن كل الشرور تكشر عن أنيابها، ويتحول مشروع بناء الدولة الى مشروع سلطة تحميه حراب النخب الفاسدة، واقلام المثقفين الخونة، مما يصيب المجتمع بالتفكك السياسي، والانحطاط الاجتماعي، وأفول الدور الحضاري. وهذا ما يمكن ملاحظته في الوقت الحاضر، حيث ان معاناة العراق ومعظم الدول العربية والإسلامية في القرنين الماضي والحاضر ترجع في كثير من جوانبها الى وجود واستمرار هكذا تحالف.
صفوة القول: ان طوق نجاة الأمم والشعوب يكمن في تحالف المثقف النزيه مع النخب الصالحة، ذلك التحالف الذي يقوم على أساس احترام القيم الأخلاقية العليا، وخدمة المصالح العامة، وصيانة الكرامة الإنسانية؛ لتتحول الدولة عندها من دولة الحاكم بأمره الى دولة الحق والقانون والمؤسسات الدستورية الفاعلة.
اضافةتعليق