نحو استراتيجية فاعلة لمكافحة التطرف في المجتمع العراقي

شارك الموضوع :

ان مواجهة التطرف والكراهية تتطلب خططاً وجهودًا متواصلة ومتكاملة تعتمد على التوعية، والتعليم، والتمكين الاجتماعي والنفسي والاقتصادي وحتى السياسي، وتنشد التعاون بين جميع الأطراف حكاما ومحكومين، من أجل تحقيق التغيير والاصلاح وبناء مجتمع عراقي أكثر مقاومة للتطرف والكراهية

 التطرف افة خطيرة تصيب اغلب المجتمعات الانسانية، لكن وطنها الامثل حيث يسود الجهل والفقر والفساد بشتى صوره، لتظهر بصيغة التعبير الكامن عن الرفض لواقع بائس ومثقل بالعلل والمشاكل، فتتحول بالتعبير السلوكي والموقف الوجداني من حالة الاستجابة الى حالة الفعل المؤثر بل والمدمر للمجتمع ونسيجه. وفي هذا السياق والمسار كان للتطرف حضور مزمن ودامٍ في المجتمع العراقي منذ ردحٍ طويل حتى تحول الى تهديدٍ خطير للوحدة الوطنية والنسيج الحضاري ينذر باتساع تداعياته وامتداد اثاره لأجيالٍ قادمة. 

   وإذا كان التطرف من حيث الفهم والاصطلاح يشير إلى تجاوز حد الاعتدال والميل والانحراف عن الوسطية في الفكر أو السلوك، فانه ينصرف من الناحية السلوكية الى تبني موقفًا متشددًا يتسم بالقطعية حيال المواقف الاجتماعية والثقافية وحتى السياسية بصورة تخرج عن المألوف الدارج بل وحتى المسموح والمشروع...قد يكون التطرف إيجابيًا في القبول التام أو سلبيًا في الرفض التام لفكرة ما الى حد التماهي معها الانصراف التام عما سواها بل والعداء لغيرها. وبكل الاحوال يعد التطرف السلوكي إفرازًا ونتيجة لتطرف فكري، حيث يميل المتطرف إلى إدانة كل اختلاف عن المعتقد الذي يعتقده، والاستعداد لمواجهة الاختلاف في الرأي أو حتى في التفسير بالعنف، وفرض المعتقد على الآخرين بالقوة. 

   ويكتسب التطرف اليوم بفضل تقنيات المعلومات والاتصالات اسلحةً خطيرةً وميادين واسعة من التأثير بفضل استخدام شبكة المعلومات الدولية ووسائل التواصل الاجتماعي لنشر الأفكار المتطرفة وتجنيد الأفراد، في سبيل الانقضاض على وحدة المجتمع واستقراره.

وقبل التحري عن سبل المواجهة والعلاج لهذا الداء العضال، ينبغي البحث ابتداء عن مسبباته، كوسيلة لتطوير العلاج واتخاذ سبيل النجاة.

   ان اول مسببات التطرف يقبع عميقاً في النفس الانسانية، حيث الشعور بالإحباط المصاحب لبعض الصدمات والتغيرات الحياتية واليأس وفقدان الهوية والبحث عن معنى للانتماء والغاية التي تجعل من هذه النفس الحائرة مصيدةً رائعة للأيديولوجيات المتطرفة التي تقدم لها إحساسًا بالانتماء والمعنى والرسالة والغاية. ويقف الى جانبها بدرجة اقل تأثيرا وتوافرا مفهوم "الحاجة إلى الانغلاق المعرفي" حينما يميل الأفراد الذين لديهم حاجة قوية إلى الهيكلة واليقين إلى الانجذاب نحو الأيديولوجيات المتطرفة التي تقدم إجابات نهائية. 

   ولا يبخل البعد الاجتماعي في تقديم المزيد من مسببات التطرف عبر نافذة التهميش والإقصاء الاجتماعي والاقتصادي، وعدم تكافؤ الفرص، المؤدي بالفرد الى الشعور بالإحباط واليأس، مما يجعله أكثر عرضة للانجذاب نحو الأيديولوجيات المتطرفة التي تقدم له شعورًا بالانتماء والهدف؛ مثلما يكون التفكك الأسري وضعف التنشئة الاجتماعية موقدا اخر للتطرف، بجانب تأثير الأقران السلبي. ويساهم غياب الشعور بالانتماء الوطني والفراغ الفكري او نقيضه التهديد الثقافي في دفع بعض الأفراد نحو التطرف بحثًا عن الهوية والمعنى والرسالة والهدف.

    كما لا يفقد البعد الاقتصادي رونقه في انتاج مسببات ودوافع اخرى للتطرف مجالها الفقر والبطالة ونقص الفرص الاقتصادية وحتى الفساد الاقتصادي بوصفها اوساطاً خصبة لنضوج مشاعر الإحباط والتهميش، ومن خلفها الرغبة العارمة في البحث عن فرصٍ أفضل في العيش والكسب المادي الذي تقدمه جماعات التطرف. 

   ثم تقف الاسباب السياسية على قمة هرم التطرف شامخةٍ بإسهاماتها الفاعلة في تهيئة البيئة المناسبة لنمو التطرف والكراهية؛ فالاستبداد والفساد السياسي، والصراعات والحروب بنوعيها الداخلية والدولية، والاحتلال الأجنبي، وغياب الحريات والحقوق ومعها التسويات العادلة لبعض المطالب والقضايا المصيرية، يمكن أن تخلق مناخًا من الغضب والاستياء يدفع الأفراد نحو تبني الأفكار المتطرفة. كما أن الاستقطاب السياسي والدعاية الانتخابية المغرضة، وعدم الثقة في المؤسسات السياسية، وانتشار الأيديولوجيات المتطرفة من قبل بعض الجهات والاحزاب السياسية، يمكن أن تقدم خدمات جليلة في تفاقم مخاطر التطرف. 

  وبعد هذا وذاك من اسباب التطرف، يمكن لنا صياغة وصفةٍ افتراضية لمواجهة التطرف والكراهية في المجتمع العراقي تتمحور بصيغة استراتيجية متعددة الأبعاد والمستويات والاجيال مجالها الاتي: -

   على الصعيد النفسي يجب تعزيز الوعي النفسي لدى الأفراد من خلال برامج تعليمية وتدريبية تركز على فهم الذات والآخرين وتطوير مهارات التفكير النقدي والتعاطف، كما تعلم الأفراد كيفية التعامل مع الضغوط النفسية والقلق والغضب، مما يقلل من احتمالية الانجراف نحو الأفكار المتطرفة. 

   ويمكن في هذا السياق استخدام تقنيات مثل العلاج السلوكي المعرفي لمساعدة الأفراد على إعادة تشكيل أفكارهم ومعتقداتهم وتطوير مفاهيم إيجابية. يمكن أن يكون التوجيه الإرشادي وتعزيز الذكاء العاطفي أدوات فعالة في تعليم الأفراد كيفية التعامل مع التوترات والمشاعر السلبية بشكل إيجابي وتعزيز القدرة على التواصل والتعاطف مع الاخرين. 

   على الصعيد الاجتماعي يمكن تعزيز بيئة تربوية تنبذ العنف والكراهية، وتكرس قيم التسامح والاحترام المتبادل، من خلال وضع معايير صفية شاملة، واستخدام أدب متنوع، وإجراء مناقشات مفتوحة حول التحيز والتنوع. كما أن تنفيذ برامج تعليمية حول التنوع والتسامح واحترام حقوق الإنسان وتعزيز الشعور بالانتماء الوطني في المدارس والجامعات وسائر المؤسسات الاجتماعية، يصاحبها برامج للتوعية الاجتماعية بوسائط الاعلام والتواصل الاجتماعي تسلط الضوء على أخطار التطرف والكراهية ومزايا التنوع والتواصل والتكامل على طريق الوئام والسلام الاجتماعي، كفيل بتوفير بيئة اجتماعية صحية وفاعلة في مجال اجتثاث دابر التطرف والغلو في المجتمع.

   ولا ننس في هذا المقام ما يمكن للمؤسسات الدينية أن تقدمه من رسائل تدعو للتسامح والسلام، وتنبذ العنف والتطرف من خلال الخطاب الديني المتوازن والواعي، والداعي الى الحوار البناء بين الأديان والثقافات بغية المساعدة في تقليل سوء الفهم والكراهية وتقليص الأفكار المتطرفة التي قد تكون متجذرة في بعض الأوساط.

    ولما كان التمييز والفقر سببا رئيسا للكراهية والتطرف، وجب العمل على مكافحة جميع أشكال التمييز من خلال التشريعات والسياسات التي تعزز المساواة وقيم التسامح وتحارب التطرف وتسعى الى توفير فرص اقتصادية عادلة للجميع من خلال تحسين الظروف الاقتصادية وتوفير فرص العمل مع التركيز على توفير المساحات الآمنة للتعبير عن الرأي.

   ختاماً لابد من القول ان مواجهة التطرف والكراهية تتطلب خططاً وجهودًا متواصلة ومتكاملة تعتمد على التوعية، والتعليم، والتمكين الاجتماعي والنفسي والاقتصادي وحتى السياسي، وتنشد التعاون بين جميع الأطراف حكاما ومحكومين، من أجل تحقيق التغيير والاصلاح وبناء مجتمع عراقي أكثر مقاومة للتطرف والكراهية.

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية