بالنظر الى الخيارات التي تواجهها بغداد، من غير المرجح أن تختار التخلي عن حيادها والاتجاه الى دعم إيران ضد إسرائيل. في حين هددت بعض الميليشيات المرتبطة بإيران، مثل حركة حزب الله والنجباء، بمهاجمة أشخاص ومصالح أمريكية، فإنها تشترط على واشنطن أو حلفائها "التدخل" في شؤون المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي. وهذه سمة شائعة في الخطابات العلنية للميليشيات، مما يسمح لها بإظهار معارضتها مع تجنّب مخاطرة كبيرة في شن هجمات ضد المصالح الاميركية
ج. انطوني بفاف، نقلا عن مجلس الأطلسي-واشنطن
مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
ترجمة: د. حسين احمد دخيل
تموز-يوليو 2025
حتى قبل الصراع الحالي بين إسرائيل وإيران، غالبًا ما بدت آفاق العلاقات الأمريكية العراقية المستقبلية قاتمة. ونظرًا لتراجع تهديد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وكذلك للمعارضة الشعبية للوجود العسكري الأمريكي في إطار عملية العزم الصلب، اتفقت واشنطن وبغداد على تقليص دور القوات الأمريكية في مكافحة داعش والانتقال الى علاقة أمنية جديدة.
علاوة على ذلك، جددت الميليشيات المدعومة من إيران هجماتها ضد القوات الأمريكية على خلفية دعم واشنطن للعمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة في أعقاب 7 /تشرين الأول 2023. ومما زاد الطين بلة، أن التعبيرات الشعبية عن المشاعر المعادية للولايات المتحدة، بسبب عداء العراقيين الراسخ تجاه إسرائيل، أدت الى هجمات على شركات مرتبطة بالولايات المتحدة، مما حدّ من الاهتمام المتدني أصلًا بتوسيع العلاقات الاقتصادية بين البلدين. وهكذا، مع تضاؤل أثر التعاون الأمني وضيق مجال التوسع في قطاعات أخرى، يصعب تصور مستقبل العلاقات الأمريكية العراقية، إلا في حال إنهاءها أو استمرار الوضع الراهن الذي لا يخدم مصالح أيٍّ من الطرفين.
مع ذلك، قد تكون المظاهر خادعة. ففي نيسان 2024، ومع اشتداد الحرب في غزة، زار رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني الولايات المتحدة لتشجيع تحسين التعاون الأمني والاقتصادي. حتى أنه سافر الى هيوستن، تكساس، حيث وقّع اتفاقيات مع كبرى شركات النفط الأمريكية، وعدها فيها بمعاملة تفضيلية، لا سيما على الشركات الصينية التي تسعى لاستغلال موارد العراق النفطية. زيادة على تأكيد التزامه بالتعاون الأمني مع الولايات المتحدة، وقّع أيضًا اتفاقيات مع شركات دفاع أمريكية للتدريب والمعدات. ولعل الأهم من ذلك أنه أطلق بالفعل برنامجًا شاملًا لإصلاح قطاع الأمن يجمع جميع الجهات المعنية في هذا القطاع في العراق، ويلعب فيه المستشارون الأمريكيون دورًا بارزًا.
نتيجة لهذه الظروف، يبدو أن العلاقات الأمريكية العراقية على مفترق طرق. قد تنحاز بغداد الى طهران وتطرد المستشارين الأمريكيين المتبقين، مما يحدّ بشدة، إن لم يكن ينهي علاقتها مع الولايات المتحدة. كما يمكنها الحفاظ على حيادها، وربما تلعب دورًا في تهدئة الصراع. ومع ذلك، قد تُتاح للولايات المتحدة أيضًا فرصة لتسهيل جهود العراق لتقليل اعتماده الاقتصادي والطاقوي على إيران، مع تعزيز قدرته على الصمود في وجه محاولات طهران عرقلة مساعي بغداد لبسط سيادتها الكاملة.
معضلات العلاقات الأميركية العراقية
لطالما اضطرت كلٌّ من الولايات المتحدة والعراق الى موازنة علاقاتهما، مع بعضهما البعض، وموازنة علاقاتهما مع إيران. في حالة واشنطن، استلزم هذا التوازن بناء علاقات أوثق مع العراق، مع الحفاظ على الردع تجاه إيران. أما بالنسبة للعراق، فقد عنى ذلك إيجاد توازن بين شريكين متصارعين، ما تطلب مساحةً لهما (إيران والولايات المتحدة) للتعامل مع بغداد دون التعامل مع بعضهما البعض. لم تكتفِ إيران بزوايا منفصلة، بل دأبت على استخدام وكلائها العراقيين لتضييق مساحة التعامل مع الولايات المتحدة، ساعيةً في نهاية المطاف الى طرد القوات الأمريكية وبسط سيطرتها على الحكومة العراقية. وبذلك، فأن تدخل طهران عطّل تعافي العراق وأعاق المصالحة السياسية والنمو الاقتصادي فيه.
وقد ولّد هذا "التداخل الثلاثي" معضلاتٍ لكلٍّ من العراق والولايات المتحدة، حيث ان التراجع في علاقة واحدة يُقوّض التقدم في علاقةٍ الأخرى. على سبيل المثال، تضع هجمات الميليشيات على القوات الأمريكية الولايات المتحدة في موقفٍ يُجبرها على الاختيار بين الردّ وإثارة معارضةٍ شعبيةٍ لوجودها أو التقاعس، مما يسمح لإيران ووكلائها بمهاجمة القوات الأمريكية دون عقاب. عندما تختار الولايات المتحدة الرد، يتعين على الحكومة العراقية الاختيار بين معاقبة واشنطن بطريقة ما والمخاطرة بمساعدات أمنية قيّمة، أو التعامل مع رد فعل شعبي عنيف، غالبًا ما تُحركه الميليشيات.
بعد ضربات عام 2019 ضد الميليشيات المدعومة من إيران التي هاجمت القوات الأمريكية، مما أسفر عن مقتل شخص وإصابة آخرين، على سبيل المثال، نظمت الميليشيات والأحزاب السياسية الموالية لإيران احتجاجات حاشدة بلغت ذروتها باقتحام السفارة الأمريكية. وفي ظل هذه الظروف، لم تتمكن الولايات المتحدة من التعامل مع العراق إلا من انها حيث تتمتع بميزة نسبية، وتحديدًا في قطاعي الأمن والطاقة.
من جانبها، قد تكون إيران الطرف الوحيد الذي لا يواجه معضلة في علاقته مع الولايات المتحدة أو العراق. قد يؤدي التدخل العلني في السياسة العراقية الى احتجاجات، كما حدث في أكتوبر/تشرين الأول 2019. مع ذلك، عندما فاز القوميون المرتبطون برجل الدين العراقي مقتدى الصدر بأغلبية مقاعد البرلمان عام 2021، تمكنت حركة فتح الموالية لإيران من منع تشكيل الحكومة، مما دفع الصدر الى سحب جميع ممثليه من المجلس التشريعي. هذا الانسحاب ترك حركة فتح، وهي ائتلاف من الأحزاب السياسية المدعومة من إيران، مسيطرة الى حد كبير. وهذا يُظهر مرونة النفوذ الإيراني في العراق، وكيف أن مصالح بغداد لا تُشكل تهديدًا يُذكر لمصالح طهران.
رغم هذه المرونة، فإن عجز إيران في الدفاع عن مجالها الجوي، وخسائرها المستمرة في صفوف القادة العسكريين الرئيسيين والعلماء النوويين، وتهديد المقاومة الشعبية، كلها عوامل دفعت طهران بلا شك الى الشعور بضرورة عرقلة التعاون الأمريكي العراقي وإقناع بغداد بالتخلي عن الحياد.
على سبيل المثال، قد يدفع الضغط على العراق من طهران ومصادر محلية إلى رد فعل مسلح على الانتهاكات الإسرائيلية للمجال الجوي العراقي. وبينما من غير المرجح أن يكون هذا الرد فعالاً، إلا أنه قد يدفع الميليشيات الى تجاوز جمودها الحالي وضرب أهداف إسرائيلية وأمريكية، وهذه المرة دفاعاً عن السيادة العراقية، الأمر الذي سيحظى بدعم سياسي أكبر بكثير من الدفاع عن إيران. وهذا الامر قد يدفع بغداد اما الى اتخاذ موقف أكثر تشدداً تجاه واشنطن، أو الى مواجهة الانهيار، حيث يشكك البرلمان والرأي العام في شرعيتها. إذا اختارت بغداد، لأي سبب كان، ان تتبنى الموقف الأكثر تشدداً، فلن يكون أمام الولايات المتحدة خيار سوى التخلي عن معظم، إن لم يكن جميع، برامج تعاونها الأمني، مما يُنهي العلاقة فعلياً.
حتى لو قاومت بغداد الضغط الإيراني، فإن تجدد هجمات الميليشيات على القوات الأمريكية سيضع الولايات المتحدة مجددًا في مواجهة انتقامية، وهو احتمال خاسر لواشنطن. فكل ضربة تدريجية أو رد فعل مضاد يُنذر بتصعيد دوامة من الانتقام دون تحقيق أي ميزة استراتيجية. من ناحية أخرى، تكتسب الميليشيات العراقية المدعومة من إيران ميزة استراتيجية بمجرد تحديها. كل استفزاز يُقوّض مصداقية الولايات المتحدة، ويُوتر علاقتها ببغداد، ويُعزز رواية الميليشيات عن المقاومة وشرعية المقاومة.
حل المعضلات
بالنظر الى الخيارات التي تواجهها بغداد، من غير المرجح أن تختار التخلي عن حيادها والاتجاه الى دعم إيران ضد إسرائيل. في حين هددت بعض الميليشيات المرتبطة بإيران، مثل حركة حزب الله والنجباء، بمهاجمة أشخاص ومصالح أمريكية، فإنها تشترط على واشنطن أو حلفائها "التدخل" في شؤون المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي. وهذه سمة شائعة في الخطابات العلنية للميليشيات، مما يسمح لها بإظهار معارضتها مع تجنّب مخاطرة كبيرة في شن هجمات ضد المصالح الاميركية.
على الرغم من الزخم الشعبي حول قتال إسرائيل، قد تعتقد الميليشيات أن لديها الكثير لتخسره من توسيع نطاق الصراع. لا يقتصر الأمر على أن الهجمات المضادة التي تشنها القوات الإسرائيلية والتي قد تؤدي الى مقتل قادة رئيسيين، بل قد تؤدي أيضًا الى تعطيل عمليات تهريب النفط المربحة التي توفر نفوذًا كبيرًا على الحكومة العراقية. ووفقًا لبعض التقديرات، تجني إيران ووكلاؤها العراقيون أكثر من مليار دولار سنويًا من الإيرادات، ويحصل الجميع على حصة منها. كما أن تهريب النفط ليس مصدر تمويلهم الوحيد. ففضلا عن اختلاس أموال الحكومة العراقية، استثمروا في الاقتصاد العراقي، محققين عائداتٍ بمليارات الدولارات. ونتيجةً لذلك، يبدو أنهم الآن أكثر تركيزًا على حماية مصالحهم التجارية من التورط في صراعٍ مع إسرائيل أو الولايات المتحدة.
اضافةتعليق