دور النهضة الحسينية في إعادة تعريف العلاقة بين الحاكم والمحكوم... قراءة في ضوء حاجات العصر

شارك الموضوع :

معظم الأسباب والظروف التي دفعت الحسين عليه السلام للقيام بما قام به سنة 61 هجرية لا زالت قائمة وبدرجات مختلفة في سنة 1447 هجرية، حيث تسود الأنظمة الحاكمة الفاسدة، وينتشر الظلم، واختلال العدالة، والتحلل الاجتماعي، واعوجاج الاحكام والقيم الأخلاقية، والاستئثار بالسلطات والثروات وغيرها من المظاهر الخاطئة التي تلف انظمتنا وقيمنا وعلاقاتنا وتفضيلاتنا ...الخ كل ذلك يستدعي النهضة الحسينية كقيادة وثورة وبوصلة هادية للمصلحين والثوار والناس الراغبين في وضع الأمور في نصابها الصحيح في مجتمعاتنا المعاصرة، ومن يخطأ في فهم هذه النهضة لن يكتب له النجاح في الوصول الى غاياته وأهدافه الإصلاحية المعلنة

مع دخول شهر محرم الحرام من كل عام يستذكر المسلمون حول العالم، لاسيما المحبون لآل بيت الرسول محمد صلى الله عليه وآله ذكرى عاشوراء الأليمة، حيث تعرض الحسين عليه السلام وثلة من اهل بيته وانصاره الى تلك المقتلة العظيمة والقاسية التي اختلط فيها استكبار السلطة وطغيانها بانتهاكها السافر لكل المحرمات العقائدية، وتجاوزها المتعمد والبغيض لكل المعايير الإنسانية في التعامل مع الرأي المعارض والمختلف، فلم يسلم من سطوتها ابن نبي، ولا طفل رضيع، ولا شيخ كبير، ولا امرأة، ولا محارب... وغالبا ما يكون هذا الاستذكار بألم وحرقة تمتزج فيه البواعث العقائدية بالدوافع الذاتية لترسم لوحة شعائرية حزينة لا يمكن وصف رمزيتها ودلالاتها الكبيرة. 

ان استذكار النهضة الحسينية لا ينبغي ان يتوقف عند البعد الشعائري على أهميته، بل من الضروري الغوص في الدلالات القيمية والاحكام الشرعية التي شكلت جوهر هذه النهضة ومصدر انطلاقها، فتلك الدلالات والاحكام تتطلب فهما وادراكا واعيا من الاجيال المعاصرة بعد أكثر من 1380 سنة على حصول مذبحة الطف المحزنة. ففي عصر تزدحم فيه الأفكار والقيم، وتكثر فيه نماذج الإدارة والحكم، وتعصف بثوابته التكنلوجيا وتطوراتها المتسارعة، مما يجعل البشر -افرادا وجماعات- في حالة دائمة من الارباك والتشتت، لابد للقيم والاحكام المتوارثة ان تُستحضر لا كطقوس وقتية، وانما كرموز ومعان استدلالية تساعد على بث الروح الخيرة في النظم والعلاقات الاجتماعية، وكبوصلة تحدد للأجيال الحاضرة سبل الحفاظ على هويتها وقوتها ومناهجها العقائدية والأخلاقية الصحيحة. 

وانطلاقا من هذه القاعدة المهمة نرى ان اهم ما تضمنته النهضة الحسينية هو دورها الحاسم في إعادة تعريف العلاقة بين الحاكم والمحكوم، تلك العلاقة التي عانت ولا زالت تعاني بسبب المواقف والتصورات الخاطئة لكل طرف من اطرافها من حيث طبيعة دوره وعلاقته بالطرف الاخر، ولتصحيح هذا الفهم الخاطئ تبرز النهضة الحسينية كمرتكز أخلاقي وشرعي يصحح هذا الفهم، ويعيد ضبط مساره من خلال الاضاءات المهمة الاتية:

أولا-السلطة هي ميثاق مشروط بين الحاكم والمحكوم، فهي ليست علاقة من طرف واحد، بل هي علاقة تعاقدية تتحدد فيها صفات الحاكم، التي تؤهله لإدارة شؤون الناس؛ ليصبح من واجب الناس طاعته وتقديم النصح والمشورة له، وعندما تنتفي شروط هذه العلاقة التعاقدية يسقط حق الحاكم في مسك زمام السلطة، كما ينتفي التزام الناس بطاعته ونصحه وارشاده. 

ان الميثاق التعاقدي بين الحاكم والمحكوم يشكل جوهر نظرية العقد الاجتماعي التي قامت عليها الدولة الحديثة بعد ذلك بقرون عديدة، فالناس لا تطيع السلطة لغلبة حكامها، او لطبيعة انتمائهم العشائري والعرقي، او لأنهم قدر قدره الله وفرضه عليهم، مما يعني سقوط نظرية القوة والغلبة، ونظرية الأصل العشائري والقومي، ونظرية القضاء والقدر وغيرها من النظريات المتخلفة التي برر بها البعض طاعة الحكام، فالناس تطيع من الحكام من كان مؤهلا للطاعة؛ بسبب عدله وصلاحه ورفقه وورعه، ولذا خاطب الحسين عليه السلام الناس قائلا: " أيها الناس ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: من رأى سلطانا جائرا ، مستحلا لحرام الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله ان يدخله مدخله"، وهنا نجد ان النهضة الحسينية ثبتت امرا مهما للغاية، ففي الوقت الذي حددت مواصفات الحكم الجائر، اشارت -أيضا- الى مسؤولية الناس في الخروج عليه وتغييره بأي وسيلة كانت، فجعلت حق الحاكم بالطاعة مرهون بصلاحه، كما حّملت المحكوم مسؤولية الثورة عليه في حال طغيانه واستبداده، بل حمّلت المحكوم مسؤولية مشابهة لمسؤولية الحاكم الجائر في حال السكوت عليه والخضوع لأمره. ولذا تجد الحسين عليه السلام يوم الطف لا يقرع بسوطه السلطة الفاسدة التي يمثلها يزيد فقط، ففي الوقت الذي يبين فساد حكم يزيد ووجوب الخروج عليه بالقول: " لا بيعة ليزيد، شارب الخمور، وقاتل النفس المحرمة"، وقوله: " على الإسلام السلام، إذا بليت الأمة براع مثل يزيد"، و " لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد"، فانه كذلك يقرع بسوطه الناس الذين مالوا، او خضعوا، او صمتوا على حكم حاكم مثل يزيد بقوله: " يا أمة السوء بئسما خلفتم محمدا في عترته...". هذا التقابل بين صلاح الحاكم وطاعته، وطغيانه والثورة عليه، ومسؤولية الحاكم والمحكوم المشتركة عن انتشار الفساد والطغيان وانتهاك الحقوق والحريات، هو من الاحكام المهمة التي ينبغي الالتفات اليها عند التأمل او التفجع بذكرى النهضة الحسينية، فهي ليست حكما ضيعه الجيل الذي عاش فيه الحسين عليه السلام، بل هو حكم مستمر ضيعته الأجيال المتلاحقة من المسلمين، فكانت النتيجة استدامة حالة الظلم والفساد والطغيان، وتراجع مستمر في الحفاظ على الحقوق والحريات مما قاد الى انتشار التخلف الحضاري داخل بلداننا الإسلامية، فنحن اليوم بحاجة ماسة الى استحضاره والتركيز عليه لتصحيح النظر الى السلطة وتقويمها ووضعها على الجادة المستقيمة.

ثانيا- إسلام الحكام لا يعني بالضرورة صلاحهم وقدسيتهم، فيزيد الحاكم عاش في عصر يسميه الكثير من المؤرخين بعصر الفتوحات الإسلامية، حيث كانت الجيوش الإسلامية تفتتح البلدان واحدا بعد الاخر باسم الإسلام، ولكن الإسلام الظاهر للسلطة لم يخف ويستر فساد جوهرها، فالفيصل الحقيقي في مؤازرة السلطة وتأييدها لا يكون بإسلام حكامها الظاهري وانما – أيضا-بصلاح جوهرهم في إدارة الحكم والعدل بين الناس.

ان خروج الامام الحسين عليه السلام على حكم يزيد الفاسد والظالم ومطالبته علنا بإسقاطه أسقط معه كل مقولات القدرية واتباعهم من الذين اكتفوا بصلاح ظاهر الحكام وتغاضوا عن فسادهم وعدوه أساسا لتبرير طاعتهم، كما أسقط معه كل الحكام الظالمين الذين يخدعون الناس باسم الدين، ومعهم كل المنافقين من الكتاب ووعاظ السلاطين الذين يعيشون على موائدهم ويبررون بقائهم. 

وعليه نحن اليوم بحاجة الى الاستفادة من هذه القاعدة الحسينية المهمة في تصحيح العلاقة بين الحكام والمحكومين لبناء الدولة والمجتمع على أسس صحيحة، فانتماء الحكام الى الإسلام كدين او الى أي من فروعه المذهبية لا يبرر السكوت على فسادهم، فالفساد واحد سواء صدر من مسلم ام غير مسلم، وواجب المحكومين مسلمين وغير مسلمين ان يكونوا دائما مستعدين لتصحيح مسار الحكم وابعاد المفسدين عن تولي مواقع السلطة.

ثالثا- المعارضة المسلحة للسلطة ليست هي اول خيارات المعارضة السياسية، فعندما يكون متاحا لهذه المعارضة الوقوف بوجه السلطة سلميا، أي ما نسميه اليوم المعارضة من خلال الرأي او الاحتجاجات السلمية وغيرها فان قوى المعارضة لا تلجأ الى العمل المسلح لما في هذا العمل من مخاطر جسيمة على الدولة والمجتمع، اما عندما يضيق افق السلطة بشكل كامل، وتمارس طغيانها واستبدادها بصورة سافرة تصل الى حد قمع الناس فكريا وسلوكيا عندها يكون اللجوء الى العمل المسلح بدافع الاضطرار، وهذا ما جرى مع الحسين عليه السلام في معارضته الاستبداد الاموي، فعندما تولى يزيد السلطة بكل مفاسده التي تنزع عنه الحد الأدنى من الاهلية لخلافة المسلمين، ورفض الحسين عليه السلام بيعته بمقولته الشهيرة لوالي المدينة الوليد بن عتبة بن ابي سفيان التي جاء فيها: " أيها الأمير! إنا اهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب للخمر، قاتل للنفس المحترمة، معلن للفسق، ومثلي لا يبايع مثله..." والتي بين فيها الموانع الأخلاقية والشرعية التي تحول دون بيعة يزيد، فان الأخير لم يترك الحسين وشأنه كمعارض سلمي داخل الدولة كما فعل الامام علي عليه السلام مع من رفض بيعته بعد مقتل عثمان، وكما فعل مع الخوارج قبل قتلهم للصحابي عبد الله بن خباب وزوجته الحامل، بل انه اصر على بيعة الحسين عليه السلام او قتله، وهذا يتضح بشكل جلي في كتاب يزيد الى والي المدينة المشار اليه أعلاه، والذي ورد فيه: " أما بعد: فاذا أتاك كتابي هذا، فعجل علي بجوابه، وبين لي في كتابك كل من في طاعتي، أو اخرج عنها، ولكن مع الجواب رأس الحسين بن علي، والسلام". 

لقد اضطر هذا الاستهتار والقمع السياسي الذي مارسته سلطة يزيد الحسين عليه السلام الى ترك المدينة الى مكة مكرها، وقد عبر عن هذا الاكراه عند وداعه لقبر جده رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله: " بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد خرجت من جوارك كرها، وفُرق بيني وبينك، وأُخذت قهرا أن ابايع يزيد، شارب الخمور، وراكب الفجور، وإن فعلت كفرت، وإن ابيت قتلت، فها أنا خارج من جوارك كرها...". كما يتضح ذلك في قول الحسين عليه السلام لعبد الله بن عباس: " يا بن عباس! ما تقول في قوم أخرجوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من داره، وقراره، ومولده، وحرم رسوله، ومجاورة قبره، ومسجده، وموضع مهاجره، فتركوه خائفا مرعوبا، لا يستقر في قراره، ولا يأوي في موطن، يريدون في ذلك قتله، وسفك دمه، وهو لم يشرك بالله شيئا، ولا اتخذ من دونه وليا، ولم يغير عما كان عليه رسول الله؟!".

وعندما وصل الحسين عليه السلام الى مكة واصلت السلطة نهجها المستبد الغاشم، ولذا أرسل يزيد عمرو بن سعيد بن العاص على رأس جيش وأمره بقتل الحسين " ولو كان متعلقا بأستار الكعبة"، فاضطر الحسين عليه السلام حينها الى عدم اكمال حج البيت والاقتصار على العمرة المفردة قائلا: " والله لأن اُقتل خارجا منها بشبر، أحب الي من أن أُقتل داخلا فيها بشبر. وأيم الله! لو كنت في ثقب هامة من هذه الهوام لأستخرجوني حتى يقضوا فيّ حاجتهم، ووالله ليعتدن عليّ كما اعتدت اليهود في السبت"، وقوله في موضع آخر: " والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فاذا فعلوا ذلك، سلط الله عليهم من يذلهم؛ حتى يكونوا أذل من فرام المرأة"، او كما في موضع آخر: " حتى يكونوا أذل فرق الأمم". وقد حاول العديد من الصحابة ثني الحسين عليه السلام عن الخروج المسلح على السلطة ومحاولة مهادنتها بالسلام، ومنهم عبد الله بن عمر الذي رد عليه الامام بالقول: " هيهات يا بن عمر، ان القوم لا يتركوني، وان اصابوني، وان لم يصيبوني، فلا يزالون حتى ابايع وأنا كاره، أو يقتلوني...". ولذا تجد الحسين عليه السلام يوم العاشر من محرم سنة 61 هجرية واثناء قتاله اعدائه قال مقولته العظيمة: " ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة..."، فضلا عن قوله: " والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد...".

ومن خلال كل ذلك يظهر جليا ان خيار المعارضة المسلحة لم يكن خيار الحسين عليه السلام واصحابه الكرام، وانهم لو سُمح لهم بالأشكال الأخرى للمعارضة السياسية لما ذهبوا نحو الخيار المسلح، ولكن هذا الخيار اجبرتهم عليه السلطة الفاسدة المستبدة ضيقة الأفق، ففتحت على نفسها باب الدمار والانهيار ولو بعد حين، وفي هذا عبرة عظيمة لما ينبغي على السلطة ان تتعامل به مع المعارضة التي تواجهها من جانب، وما ينبغي على المعارضة ان تتصف به في تعاملها مع السلطة فلا تتساهل وتستعجل في الذهاب نحو المعارضة المسلحة قبل استنفاذ كل الطرق السلمية للمعارضة من جانب آخر.

رابعا- المعارضة المسلحة ليست خيارا متهورا تتخذه القيادات المعارضة في لحظة غضب او تصلب مثالي، وانما هي خيار واعي تتخذه القيادات بعد توفر الأدوات المناسبة، ولذا من الخطأ على المعاصرين تصور ذهاب الحسين عليه السلام لقتال بني أمية في العراق على انه قرارا انتحاريا متهورا، بل هو قرار عقلاني بني على حسابات عسكرية مناسبة، بصرف النظر عن حديث البعض عن الحتمية الإلهية المرسومة للأحداث، فقد سبق خروج الحسين عليه السلام الى العراق وصول آلاف الكتب من وجهاء واعيان وعامة اهل الكوفة تعلن مبايعته على النصر والطاعة، وتدعوه الى المجيء الى الكوفة ليتولى قيادتها، بقولهم: " وانه ليس علينا إمام غيرك، فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق"، ووعدهم إياه ان يقتلوا انفسهم دونه، وقد اخرج الحسين عليه السلام كتب اهل الكوفة للحر بن يزيد الرياحي عندما أحاط به عند قدومه الكوفة فكانت تملئ خرجين كاملين.

وعليه، رد الحسين عليه السلام على هذه الكتب رد العارف البصير، اذ بعث ابن عمه مسلم بن عقيل للتثبت من رأي القوم قائلا: " ...فان كتب إليّ بأنه قد أجمع رأي ملئكم، وذوي الفضل والحجى منكم، على مثل ما قدمت عليّ به رسلكم، وقرأت كتبكم، فإني أقدم اليكم وشيكا إن شاء الله ..."، وبالفعل وصل مسلم الى الكوفة، وأخذ البيعة من أهلها للحسين عليه السلام، ثم بعث له برسالة جاء فيها: " أما بعد: فإن الرائد لا يكذب أهله، وإن جميع أهل الكوفة معك، وقد بايعني منهم ثمانية عشر ألفا، فعجل الإقبال حين تقرأ كتابي هذا، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته".

فضلا عن بيعة اهل الكوفة وكتبهم، وصل الحسين عليه السلام كتاب من يزيد بن مسعود النهشلي وهو من كبار زعماء القبائل في البصرة جاء فيه: " ...فأقدم سُعدت بأسعد طائر، فقد ذللت لك اعناق بني تميم، وتركتهم أشد تتابعا في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خمسها، وقد ذللت لك رقاب بني سعد، وغسلت درن صدورها بماء سحابة مزن حين استهل برقها، والسلام".

وهذا يعني ان العراق بمصريه الكوفة والبصرة اعلن البيعة والنصرة للحسين عليه السلام، فكانت تقديراته من الناحية العسكرية مبنية على اسس مناسبة من القوة لإعلان الكفاح المسلح ضد السلطة الاموية الفاسدة، وحتى لو كانت لديه مؤشرات غيبية ودلائل واقعية مختلفة، فان الحسين عليه السلام لو لم يستجيب لدعوة الكوفة والبصرة لتعرض تاريخيا للاتهام، ولكن استجابته حسمت كل الاتهامات فأخرجته من الاتهام بالتهور العسكري، كما اخرجته من الاتهام بعدم التصدي للإمامة وتحمل مسؤولية القيادة، ولذا تجده خاطب قاتليه يوم الطف بالقول: " كتب إلي أهل مصركم هذا، أن أقدم، فإما اذ كرهوني فأنا انصرف عنهم"، وقوله: " وان ابيتم إلا الكراهية لنا، والجهل بحقنا، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم، وقدمت به عليّ رسلكم، انصرفت عنكم". وهذا القول كرره الحسين عليه السلام على عمر بن سعد، وأشار اليه الأخير في رسالته الى عبيد الله بن زياد بقوله نقلا عن الحسين عليه السلام: " كتب إليّ أهل هذه البلاد، وأتتني رسلهم، فسألوني القدوم ففعلت. فأما اذ كرهوني، وبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم، فأنا منصرف عنهم".

على أي حال، المشكلة للأسف التي جعلت معركة الطف تنتهي الى ما انتهت اليه لم تكن في القيادة، بل كانت في تذبذب القاعدة وعدم تماسكها الصلب، وضعف الكثير من زعمائها امام اغراء السلطة وتهديداتها، وقد عبر عن حالة القاعدة الهشة والضعيفة مجمع بن عبد الله العائذي عندما سأله الحسين عليه السلام عن حال الناس، فقال له: " أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم، وملئت غرائزهم، ويُستمال ودهم، ويُستخلص به نصيحتهم، فهم ألب واحد عليك. وأما سائر الناس بعد، فإن أفئدتهم تهوي إليك، وسيوفهم غدا مشهورة عليك". فضلا عن أولئك الصادقين الذين عملت السلطة على قتلهم او اعتقالهم لأبعاد تأثيرهم عن الرأي العام في الكوفة كهانئ بن عروة، وسليمان بن صرد الخزاعي، والمختار الثقفي وغيرهم. 

ما نريد قوله في هذه الفقرة هو ان العمل المسلح المعارض هو من الخيارات التي تلجأ اليها القيادة السياسية المعارضة بعد الاضطرار واغلاق جميع الخيارات البديلة، وهذا العمل قرار خطر للغاية ولا تلجأ اليه القيادة الا بحسابات عسكرية دقيقة، ويحتاج الانتصار في هذا الخيار الى تماسك صلب ومصداقية لا تتزعزع بين القيادة وقاعدتها الجماهيرية، ولكن عندما تفتقر القاعدة الى مثل هذه المواصفات تكون نتائج الخيار العسكري مدمرة للقيادة، وتكون نتائجه سلبية على القاعدة مهما كانت الأسباب التي تدفع الأخيرة الى عدم الاصطفاف الكامل وراء قيادتها.

خامسا- انتصار السلطة المستبدة على المعارضة السياسية سواء كانت سلمية ام مسلحة منافعه قليلة وخسائره جسيمة، فقد خذل الناس الحسين عليه السلام، سواء من بايعه فنكث ام من عانده فوقف الى جانب باطل وظلم بني أمية، وقد حذرهم الحسين من مغبة هذا الخذلان قائلا للناكثين: " ... وقد أتتني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم، وأنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن تممتم عليّ ببيعتكم تصيبوا رشدكم...وإن لم تفعلوا، ونقضتم عهدكم، وخلعتم بيعتي من اعناقكم...فحظكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه". أما المعاندين فخاطبهم بالقول: " أما أنكم لا تقتلون رجلا بعدي فتهابون قتله، بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إياي، وأيم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بالشهادة، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون".

وقد حدث بالفعل ما قاله الحسين عليه السلام، فالسلطة الفاسدة المأخوذة بنشوة قتلها قيادة المعارضة الحسينية الصالحة لم تعد تحد فسادها واستبدادها قيود أخلاقية أرضية ام سماوية، فخرجت من عقالها تنتهك كل المحرمات، وترتكب ما لا يمكن تصوره من الاعتداء على الحقوق والحريات المحترمة، وكانت النتائج القريبة لخذلان الحسين عليه السلام هو واقعة الحرة الفظيعة في سنة 62 هجرية حيث قتل في المدينة المنورة المئات من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله، وانتهكت الاعراض، وسلبت الأموال، واجبر الناس على البيعة ليزيد كعبيد، ثم بعد ذلك تعرض بيت الله الحرام الى الحصار والتخريب وقتل الناس في جواره...واستمر استبداد السلطة وتفرعنها الخارج عن الحدود يزداد جيلا بعد جيل، ولا زلنا نعاني من اثاره ومفاسده الى الوقت الحاضر، ولولا خذلان الناس للحسين عليه السلام لأخذ التاريخ مسارا مختلفا، ولوجدنا أنماط الحكم، ومنظومة القيم والحقوق والحريات السائدة في عالمنا الإسلامي اكثر تقدما ورقيا مما هي عليه الان.

سادسا- المعارضة السياسية ليست معارضة من اجل الاستيلاء على السلطة، وان جاءت السلطة كنتيجة عرضية حتمية لهذه المعارضة، فوجود معارضة سياسية في بلد ما لا يعني استبدال سلطة فاسدة بسلطة فاسدة أخرى، او نظام ظالم مستبد بنظام ظالم ومستبد آخر، فالمسألة ليست مسألة استبدال في الوجوه، بل تغيير جذري لنمط الحكم واحكامه وقيمه وفلسفة وجوده، وهذا ما ينبغي ان تلتفت اليه أي معارضة سياسية في العالم، فما ينتظره الناس منها هو ان تأتي بخير ما يتوقعه المحكوم من نظامه الحاكم من توزيع عادل للدخل والثروة، واحترام صادق للحقوق والحريات، وتولية الاكفاء للمناصب الحكومية، واتخاذ القرارات الرشيدة التي تعزز الثقة بين السلطة وشعبها.

لقد انطلقت النهضة الحسينية من هذا الفهم الحضاري لدور المعارضة السياسية، وهذا ما كشفه الحسين عليه السلام بجلاء في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية التي جاء فيها: " وإني لم اخرج أشرا، ولا بطرا، ولا مفسدا، ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله وسلم، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن رد عليّ هذا، أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين".

ان هذا النص الحسيني يعبر بجلاء عظيم عما ينبغي ان تتصف به المعارضة السياسية من صفات، ويحدد بواعثها ومنطلقاتها، ولو اسقطناه على العديد من اشكال المعارضة عبر التاريخ، وفي مختلف بقاع العالم، وصولا الى الوقت الحاضر، لوجدنا معظمها معارضة غير مكتملة المعايير الأخلاقية والسلوكية، وكثير منها لبست لباس الحق على جوهر باطل فاسد لا يكاد يختلف كثيرا عن جوهر الأنظمة التي ثارت عليها ورامت اسقاطها.

صفوة القول: ان هذه الاضاءات الست التي نستخلصها من النهضة الحسينية ومحاولة إعادة تعريف العلاقة بين الحكام والمحكومين في ضوئها، ليست مجرد قراءة تاريخية لحدث حصل ومضى في التاريخ الغابر، بل هي استدلالات مهمة نابعة من هذه الحدث لإعادة توظيفه بشكل صحيح في بناء الحاضر والمستقبل، فمعظم الأسباب والظروف التي دفعت الحسين عليه السلام للقيام بما قام به سنة 61 هجرية لا زالت قائمة وبدرجات مختلفة في سنة 1447 هجرية، حيث تسود الأنظمة الحاكمة الفاسدة، وينتشر الظلم، واختلال العدالة، والتحلل الاجتماعي، واعوجاج الاحكام والقيم الأخلاقية، والاستئثار بالسلطات والثروات وغيرها من المظاهر الخاطئة التي تلف انظمتنا وقيمنا وعلاقاتنا وتفضيلاتنا ...الخ كل ذلك يستدعي النهضة الحسينية كقيادة وثورة وبوصلة هادية للمصلحين والثوار والناس الراغبين في وضع الأمور في نصابها الصحيح في مجتمعاتنا المعاصرة، ومن يخطأ في فهم هذه النهضة لن يكتب له النجاح في الوصول الى غاياته وأهدافه الإصلاحية المعلنة.

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية