الديمقراطية في طور ما بعد الحداثة

شارك الموضوع :

ان فلاسفة ما بعد الحداثة، ومن خلال تهميشهم للوعي، وللإرادة وللذات، قد أجهزوا على أهم مرتكزات الديمقراطية، وهي مرتكزات تقول بأن المواطن، هو بالأساس، إنسان له وعي، له ذات، وله إرادة. إنه الشرط الأول لدوام الديمقراطية

في عالم تسارعت وتائر التغيير والتطور فيه، انبثق من تحت رماد الحرب العلمية الثانية وركامها، فكر يشكو اوجاع الحرب ووحشية الانسان وخواتيم مشروع الحداثة الغربية ، رافعا لواء العصيان عليها، ومعلنا عن ولادة عصر جديد يدعى بعصر ( ما بعد الحداثة post modernity  ) لترميم واكمال مسيرة التطور الانساني على اسس ومبادئ جديدة، عائمة في فضاء من التيه والفوضى والجنون واللا منتمي واللا مطلق، لا احد يستطيع أن يحدد موعد ولادة هذا العصر وفكره، فقيل انه من بنات افكار المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي عام 1945، وقيل انه الشاعر والناقد الأمريكي تشارلس أولسون في الخمسينات الميلادية من اوقد شعلته، وكثير قالوا انها كتابات كل من (إرفنج ها، وهاري ليغين، وليزلي فيدلر، وايهاب حسن) فيما بين الاعوام 1963- 1967، حينما بدأ الجدل حول ما بعد الحداثة يعلن عن نفسه في الأدب والفنون والعمارة .

    ومنذ تأريخ تلك الولادة المتعسرة بأوجاع الحرب الكبرى الثانية وحتى وقت قريب، لم يزل مفهوم وفكر ما بعد الحداثة مائجاً بهلامية ابعاده وغموض دلالاته، لكنه – مع ذلك - يشي من طرفٍ خفي، بان الغرب قد ترك الحداثة وهو الان يتخطى السبيل صوب عالم وزمان جديد.. سريع التبدل.. بعيد عن التمركز، يكتنف شكلا جديدا من الرأسمالية المشبعة بالتقانة والنزعة الاستهلاكية، حيث انتصرت فيه صناعات الخدمات والمال والمعلومات على المصنع التقليدي، واخلت فيه السياسات الطبقية الكلاسيكية الميدان لسلسلة واسعة من السياسات المرتبطة بقضية الهوية والخصوصية والتنوع. 

    وما بعد الحداثة بعيون فردريك جمسون– أحد نقادها – تمثل “المترحل الذي تكون مهمته منصبة على بروز سمات شكلية جديدة في الثقافة، وبروز نمط جديد من الحياة الاجتماعية، ونظام اقتصادي جديد يعرف غالبا بما بعد الصناعي او الاستهلاكي ". ويراها غيره بانها " حالة معرفية وقيمية، تتصور الوجود والإنسان من خلال رؤية، ترفض المركزيات والمرجعيات والنهايات والغايات، وتؤول بكل شيء إلى الانعتاق التام من كل شيء، لحساب لا شيء، وهي من الناحية الحضارية والتاريخية لمرحلة الحداثة الغربية. " 

    وازاء هذا التيه الما بعد حداثي المفعم بانين الماضي والتطلع المتوجس الى المستقبل، كانت الديمقراطية وإرهاصاتها، لحظةً انسلخت من جوهرها الانساني في لجة دهماء مقفرة استنزفتها الة الحرب وماكنة السياسة الماكرة حتى افرغت محتواها وغايتها النبيلة ؛ فتخلت عن عقلانيتها وثباتها المتمحور حول تلك السرديات الشمولية المشبعة بروح الحتمية، التواقة الى الحرية والخلاص عبر بحر من الدماء والتضحيات ( العبثية ) اللامنتهية...لقد رأى مفكرو ما بعد الحداثة في تلك النظريات الشمولية الكبرى والإيديولوجيات المتجذرة بدعامات الدولة القومية والمؤطرة للديمقراطية بنزعتيها الليبرالية والاجتماعية، سبباً ومنزلقاً الى الدمار والاستبداد والدمج القهري، المنطلق من حتمية وهمية لا رصيد لها في الواقع والمستقبل . وهكذا تكرست قناعة جامحة وتيار فكري غالب لدى هؤلاء الما بعد حداثيين بان الخلاص سيكون بالإجهاز على الدولة ومنتجاتها (في الامة والسيادة والوحدة والوعي الوطني)، انطلاقا من فكرة فضفاضة تتشبع بالتسامح والتمازج الفكري والتلون الحضاري والثقافي المتدفق من قنوات الثورة الاتصالية المعولمة التي انتجت وعيا كونيا متناميا يتوق الى تبني واحتواء فكرة المواطنة الكونية الرخوة التي تتعدى خصوصية الزمكان لتلتقي بأفق كوني منفتح ومائج بأطياف المعرفة والثقافات 

ومع اشتداد عصف تلك الارهاصات والتطورات المادية والفكرية والمعلوماتية، برز تيار من الليبرالية الجديدة، المعادي لمفهوم الدولة والمتمرد على حدودها ومنتجاتها، الطامح الى منح السلطة الحقيقية لعوامل السوق في السيطرة الكاملة على قطاعات الإنتاج، وحركة رؤوس الأموال، كونها – من وجهة نظر دعاتها - الأقدر على تحقيق التوازن في السوق والاقتصاد.

    بيد ان الوجه السياسي الجديد لليبرالية لا يطيق ولا يستقبل خطابات الاحزاب السياسية الشعبوية الباحثة عن العدالة الاجتماعية والحمائية التجارية والاقتصاد الوطني وسيادة الدهماء في مقابل احتضانه العارم لأحزاب الطبقة الرأسمالية اليمينة الداعية الى الحرية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على حد سواء. 

    إنّ المجتمع ما بعد الحداثي يبدو أشبه بمجتمع الخدمة الذاتية، المتجه نحو الحد من العلاقات السلطوية والزيادة في الخيارات الخاصة وفي منح الأولوية إلى التعددية، والحرية. 

     فأنصار ما بعد الحداثة يرفضون التعميم الشامل مقابل شرح الخصوصيات بسياقاتها ومستوياتها، ويرفضون التجانس الوهمي مقابل التنوع الواقعي، ويرفضون وضوح الفكرة مقابل التضحية بدقتها، ويرفضون الأجوبة القطعية مقابل الاحتمالات المتعددة للحالة؛ فالعالم -بالنسبة لهم- مفتت مبعثر متلاش سيال في دوامة لا بداية لها ولانهاية ... لا يمكن فهمه ولا تصوره ولا تشكيل فكرة حوله. فلا يخطئ المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي حينما يعلن في كتابه "دراسة في التاريخ" بان عصر ما بعد الحداثة في الغرب سيهيمن عليه القلق واللاعقلانية وفقدان الأمل والعجز"

    وهكذا صارت الحداثة الغربية وجوهرتها المصون (الديمقراطية) تلفظ أنفاسها بفعل تلك التحولات العاصفة والارهاصات الدراماتيكية التي دقت اوداج المفاهيم العتيقة المتمثلة بـ "الأمة، والدولة، والطبيعة الإنسانية". 

   إن المتتبع لتطور الفكر الديمقراطي لدى دعاة ما بعد الحداثة، سيقف على إحدى الحقائق التي قد تسترعي الاهتمام، فبقدر ما تميز أولئك الفلاسفة بمناهضتهم للأنظمة الكليانية والاستبدادية التي أفرزها القرن العشرين، وبقدر ما خاصموا الحداثة بدعوى أنها لم تكن ملاذا آمنا للديمقراطية ولا ضمانة أكيدة للسلام العالمي، كانت أفلاطونية شتراوس سلاحا لتبرير الانقسام الطبقي وانقسام البشر إلى حكام و محكومين من جهة و للدفاع عن الأوليغاركية من جهة أخرى ( أوليغاركية النخبة المالية الاجتماعية ، البرجوازية ).مثلما كانت الديمقراطية لدى( إدموند مورغان) "صمام أمان. – ولكن لمن؟! للمستضعفين لمنحهم الشعور المؤقت، بأن لديهم سلطة وهم عادة محرومون منها.. سلطة نصفها سراب. وكانت كذلك بمثابة طقس لإعطاء الشرعية، أي حق قيام العامة بتجديد موافقتهم على بنية حكم الأقلية." 

   وكانت لدى مفكر اخر "التنافس بين النخب السياسية من أجل الوصول إلى السلطة عن طريق الحصول على التأييد الشعبي في الانتخابات القائمة على التنافس." وهذا التفريق قريب جدا من تعريف جوزيف شومبيتر في كتابه "الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية" على أنها "ترتيبات مؤسساتية للتوصل إلى قرارات سياسية يحصل الأفراد من خلالها على سلطة اتخاذ القرار عن طريق المشاركة في انتخابات قائمة على التنافس." أي أن الديمقراطية هي قضية شكلانية معزولة عن الظروف الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة في المجتمع. 

ترتيبا على ما تقدم يلاحظ إن فلاسفة ما بعد الحداثة، ومن خلال تهميشهم للوعي، وللإرادة وللذات، قد أجهزوا على أهم مرتكزات الديمقراطية، وهي مرتكزات تقول بأن المواطن، هو بالأساس، إنسان له وعي، له ذات، وله إرادة. إنه الشرط الأول لدوام الديمقراطية.

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية