سيعاني الاقتصاد الأمريكي معاناةً بالغة في حرب تجارية واسعة النطاق مع الصين، وهو ما تُشكله المستويات الحالية للرسوم الجمركية التي فرضها ترامب، والتي تتجاوز 100%، بلا شك إذا ما بقيت على حالها. في الواقع، سيعاني الاقتصاد الأمريكي أكثر من الاقتصاد الصيني، وستزداد المعاناة إذا صعّدت الولايات المتحدة من إجراءاتها. وقد تظن إدارة ترامب أنها تتصرف بصرامة، لكنها في الواقع تضع الاقتصاد الأمريكي تحت رحمة التصعيد الصيني
ادم اس. بوسن نقلا عن مجلة الفورين افرز (Foreign Affairs) / واشنطن
مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
نيسان - ابريل 2025
ترجمة: د. حسين احمد السرحان
في وقت كانت تخسر الولايات المتحدة مليارات الدولارات في التجارة مع كل دولة تتعامل معها تقريبًا،" غرد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تغريدة شهيرة عام 2018، "الحروب التجارية جيدة وسهلة الفوز". هذا الأسبوع، عندما فرضت إدارة ترامب رسومًا جمركية تزيد عن 100% على الواردات الأمريكية من الصين، مما أشعل حربًا تجارية جديدة وأكثر خطورة، قدم وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت مبررًا مشابهًا: "أعتقد أن هذا التصعيد الصيني كان خطأً كبيرًا، ما الذي نخسره من رفع الصين للرسوم الجمركية علينا؟ نحن نصدر لهم خُمس ما يصدرونه إلينا، لذا فهذه يد خاسرة لهم" في اشارة الى لعبة البوكر.
باختصار، تعتقد إدارة ترامب أنها تمتلك ما يسميه خبراء نظرية اللعبة "هيمنة التصعيد" على الصين وأي اقتصاد آخر يعاني معها من عجز تجاري ثنائي. تعني هيمنة التصعيد، على حد تعبير مؤسسة راند، " أن الطرف المقاتل لديه القدرة على تصعيد الصراع بطرق غير مواتية أو مكلفة للخصم، بينما لا يستطيع الخصم فعل الشيء نفسه في المقابل". إذا كان منطق الإدارة صحيحًا، فأن الصين وكندا وأي دولة أخرى ترد على الرسوم الجمركية الأمريكية تكون في الواقع خاسرة. لكن هذا المنطق خاطئ: فالصين هي من تمتلك هيمنة التصعيد في هذه الحرب التجارية. تحصل الولايات المتحدة على سلع حيوية من الصين لا يمكن استبدالها في أي وقت قريب أو تصنيعها محليًا بكلفة أقل. وقد يكون تقليل هذا الاعتماد على الصين سببًا للتحرك، لكن خوض الحرب الحالية قبل القيام بذلك (تقليل الاعتماد على الصين) هو وصفة لهزيمة شبه مؤكدة، بتكلفة باهظة. أو لنقل الأمر بعبارات بيسنت: واشنطن، وليس بكين، هي التي تراهن بكل شيء على يد خاسرة.
اكشف يدك
إن ادعاءات الإدارة الأمريكية غير صحيحة لسببين. أولًا، يتضرر كلا الطرفين في الحرب التجارية، لأنهما يفقدان الوصول الى ما تحتاجه اقتصاداتهما من مواد وسلع، والذي يكون شعباهما وشركاتهما على استعداد لدفع ثمنها. ومثل شن حرب فعلية، فأن الحرب التجارية عمل تدميري يُعرّض قوات الطرف المهاجم وجبهته الداخلية للخطر أيضًا، فإذا لم يعتقد الطرف المدافع أنه قادر على الرد بطريقة تُلحق الضرر بالمهاجم، فأنه سيستسلم.
تشبيه بيسنت بلعبة البوكر مُضلِّل، فالبوكر لعبة محصلتها صفر: أفوز فقط إذا خسرت؛ وتربح فقط إذا خسرت. أما التجارة، على النقيض من ذلك، فهي محصلتها إيجابية: في معظم الحالات، كلما كان أداؤك أفضل، كان أدائي أفضل، والعكس صحيح. في البوكر، لا تسترد أي شيء مقابل ما تضعه في الرهان إلا إذا فزت؛ أما في التجارة، فتسترد ما تدفعه فورًا، في صورة السلع والخدمات التي تشتريها.
تعتقد إدارة ترامب أنه كلما زادت وارداتك، قلّت المخاطر - ولأن الولايات المتحدة تعاني من عجز تجاري مع الصين، حيث تستورد سلعًا وخدمات صينية أكثر مما تستورده الصين من السلع والخدمات الأمريكية، فإنها أقل عرضة للخطر. هذا خطأ واقعي، وليس مسألة رأي. فحظر التجارة يُضعف الدخل الحقيقي للدولة وقدرتها الشرائية؛ فالدول تُصدّر لكسب المال اللازم لشراء سلع لا تملكها أو باهظة الثمن ليتم تصنيعها محليًا.
علاوة على ذلك، حتى لو ركزت فقط على الميزان التجاري الثنائي، كما تفعل إدارة ترامب، فإن ذلك ينذر بالسوء بالنسبة للولايات المتحدة في حرب تجارية مع الصين. في عام 2024، بلغت صادرات الولايات المتحدة من السلع والخدمات إلى الصين 199.2 مليار دولار، وبلغت الواردات من الصين 462.5 مليار دولار، مما أدى إلى عجز تجاري قدره 263.3 مليار دولار. وبقدر ما يتنبأ الميزان التجاري الثنائي بالجانب الذي "سيفوز" في حرب تجارية، فإن الميزة تكمن في الاقتصاد الفائض، وليس الاقتصاد العجز. تتخلى الصين، الدولة ذات الفائض، عن المبيعات، وهي أموال فقط؛ وتتخلى الولايات المتحدة، الدولة ذات العجز، عن السلع والخدمات التي لا تنتجها بشكل تنافسي أو لا تنتجها على الإطلاق في الداخل. كما ان المال قابل للاستبدال: إذا فقدت الدخل، يمكن خفض الإنفاق، أو العثور على مبيعات في مكان آخر، أو توزيع العبء في جميع أنحاء البلاد، أو سحب المدخرات (على سبيل المثال، من خلال القيام بالتحفيز المالي). الصين، شأنها شأن معظم الدول ذات الفوائض التجارية الإجمالية، تدّخر أكثر مما تستثمر، ما يعني أن لديها، الى حد ما، مدخرات فائضة، وسيكون التكيف سهلاً نسبياً. لن يكون هناك نقص حاد، ويمكنها استبدال الكثير مما كانت تبيعه عادةً للولايات المتحدة بمبيعات محلية أو مبيعات لدول أخرى.
الدول التي تعاني من عجز تجاري عام، مثل الولايات المتحدة، تنفق أكثر مما تدخر. في الحروب التجارية، تتخلى هذه الدول عن الأشياء التي تحتاجها أو تقلل من توريدها (لأن التعريفات الجمركية تجعلها أكثر تكلفة)، وهذه الأشياء ليست قابلة للاستبدال أو لا يمكن استبدالها بسهولة مثل النقود. ونتيجة لذلك، يظهر التأثير واضحاً في صناعات أو مواقع أو أسر محددة تواجه نقصًا في السلع والمواد الضرورية، وبعضها لا يمكن تعويضه على المدى القصير. كما ان الدول التي تعاني من العجز تستورد رأس المال - مما يجعل الولايات المتحدة أكثر عرضة للتحولات في المشاعر حول موثوقية حكومتها وحول جاذبيتها كمكان لممارسة الأعمال التجارية. وعندما تتخذ إدارة ترامب قرارات متقلبة بفرض زيادة ضريبية هائلة وعدم يقين كبير على سلاسل توريد الشركات المصنعة، ستكون النتيجة انخفاض الاستثمار في الولايات المتحدة، مما يرفع أسعار الفائدة على ديونها.
من العجز والهيمنة
باختصار، سيعاني الاقتصاد الأمريكي معاناةً بالغة في حرب تجارية واسعة النطاق مع الصين، وهو ما تُشكله المستويات الحالية للرسوم الجمركية التي فرضها ترامب، والتي تتجاوز 100%، بلا شك إذا ما بقيت على حالها. في الواقع، سيعاني الاقتصاد الأمريكي أكثر من الاقتصاد الصيني، وستزداد المعاناة إذا صعّدت الولايات المتحدة من إجراءاتها. وقد تظن إدارة ترامب أنها تتصرف بصرامة، لكنها في الواقع تضع الاقتصاد الأمريكي تحت رحمة التصعيد الصيني.
ستواجه الولايات المتحدة نقصًا في المدخلات (السلع والمواد) الأساسية، بدءًا من المكونات الأساسية لمعظم الأدوية، وأشباه الموصلات الرخيصة المستخدمة في السيارات والأجهزة المنزلية، وصولًا الى المعادن الأساسية للعمليات الصناعية، بما في ذلك إنتاج الأسلحة. إن صدمة العرض الناتجة عن التخفيض الجذري أو وقف الواردات من الصين تمامًا، وهو ما يزعم ترامب أنه يسعى لتحقيقه، ستؤدي الى ركود تضخمي، وهو الكابوس الاقتصادي الكلي الذي شهدناه في سبعينيات القرن الماضي وخلال جائحة كوفيد-19، عندما انكمش الاقتصاد وارتفع التضخم في آنٍ واحد. في مثل هذا الوضع، الذي قد يكون أقرب للحصول مما يظن الكثيرون، لا يبقى أمام الاحتياطي الفيدرالي وصانعي السياسات المالية سوى خيارات عسيرة، وفرصة ضئيلة لتجنب البطالة إلا من خلال زيادة التضخم.
عندما يتعلق الأمر بالحرب الحقيقية، إذا كان لديك سبب للخوف من الغزو، فسيكون استفزاز خصمك قبل أن تتسلح انتحارًا. هذا هو جوهر ما يُهدد به هجوم ترامب الاقتصادي: فبما أن الاقتصاد الأمريكي يعتمد كليًا على المصادر الصينية للسلع الحيوية (مخزونات الأدوية، والرقائق الإلكترونية الرخيصة، والمعادن الأساسية)، فإن عدم ضمان وجود موردين بديلين أو إنتاج محلي كافٍ قبل قطع التجارة يُعدّ تهورًا كبيرًا. وبفعل ذلك بطريقة معاكسة، فأن الإدارة تتسبب بالضرر الذي تدّعي أنها تريد منعه.
قد يكون كل هذا مجرد تكتيك تفاوضي، بغض النظر عن تصريحات ترامب وبيسنت وأفعالهما المتكررة. ولكن حتى في هذه الحالة، ستُلحق هذه الاستراتيجية ضررًا أكبر من نفعها. وكما حذّرتُ في مجلة الشؤون الخارجية في تشرين الاول الماضي، فإن المشكلة الأساسية في نهج ترامب الاقتصادي هي أنه سيحتاج إلى تنفيذ ما يكفي من التهديدات المُضرة بالذات ليكون ذا مصداقية، مما يعني أن الأسواق والأسر ستتوقع حالة من عدم اليقين المستمر. وسيُقلل الأمريكيون والأجانب على حد سواء استثماراتهم في الاقتصاد الأمريكي بدلًا من زيادتها، ولن يثقوا بعد الآن بقدرة الحكومة الأمريكية على الوفاء بأي اتفاق، مما يجعل التوصل الى تسوية تفاوضية أو اتفاق لتهدئة التوتر أمرًا صعب المنال. ونتيجةً لذلك، ستتراجع القدرة الإنتاجية الأمريكية بدلًا من أن تتحسن، مما سيزيد من نفوذ الصين وغيرها على الولايات المتحدة.
تدخل إدارة ترامب في حالة اقتصادية تُعادل حرب فيتنام - حرب اختيارية ستُفضي قريبًا الى مستنقع، مما يُقوّض الثقة في الداخل والخارج بجدارة الولايات المتحدة بالثقة وكفاءتها - وكلنا نعلم كيف انتهى الأمر.
رابط المقال الاصلي
اضافةتعليق