عوامل تقدم الدول وانحطاطها - 1

عوامل تقدم الدول وانحطاطها - 1
ان القيادة السياسية السيئة هي رأس كل الشرور في انحطاط الدول التي تحكمها، وقد تكون هذه القيادة نتاج الثقافة العامة السائدة في المجتمع، فكما يقال ان كل مجتمع يحصل على القيادة التي يستحقها، ولكن ذلك لا يعفي القيادة من مسؤولية بقاء الانحدار، واستمرار مسار التخلف والتراجع للدولة، فالقيادات السياسية وجدت لإصلاح ما هو معوج من الأمور، لنقل شعوبها نحو الأفضل، لا من اجل استدامة حالة التردي والانحطاط

لماذا تنجح بعض الدول في شق طريقها نحو التقدم، بينما تنحدر دول أخرى الى مسارات الفشل والانحطاط؟ 

قد يجيب البعض على هذا السؤال بربط الامر بالحجم الجغرافي للدولة، وعدد سكانها، وطبيعة موقعها الجغرافي، وكثرة مواردها الطبيعية، وقدراتها العسكرية ...الخ، ولا ننكر أهمية هذه الإجابة، ولكن في عصر الدولة الحديثة لم تعد هكذا إجابة تقليدية كافية لتفسير تقدم الدول وتخلفها، فهناك دول صغيرة للغاية، ومحدودة السكان والقدرات العسكرية، ولا تكاد تملك شيئا ذا أهمية من الموارد الطبيعية حجزت مكانها المهم بين دول العالم، كسنغافورة على سبيل المثال، او وظفت مواردها الطبيعية بطريقة جيدة لحجز هذا المكان، كقطر. بالمقابل أصاب الانحطاط دولا أخرى لديها الكثير من مقومات القوة التقليدية (المساحة الجغرافية، الموارد الطبيعية، عدد السكان، الموقع الجغرافي، القدرات العسكرية)، كالسودان، والعراق، ونيجيريا، وغيرها من الدول.

ان وجود الكثير من مقومات القوة التقليدية لدى الدولة، وعجزها في الوقت نفسه عن بلوغ مصاف الدول المتقدمة يعني ان عوامل تقدم الدول وانحطاطها لا ترتبط -فقط- بتوافر هذه المقومات، وانما ترتبط بعوامل أخرى أكثر أهمية، لدرجة ان غيابها مع امتلاك الدولة لأصول مهمة من مقومات القوة التقليدية سيزيد من سرعة انحدارها، وتعرضها لأخطار كثيرة تستنزف مواردها التقليدية وتدخلها في دوامة معقدة من النهب، والتقسيم، والصراعات السياسية والعسكرية، والتدخلات الخارجية وغيرها. 

وعليه، ما هي هذه العوامل؟ وما تأثيرها؟

نظرا لصعوبة الحديث عن هذه العوامل مجتمعة في مقال واحد، لذا سيجري التطرق اليها من خلال ثلاث مقالات متتالية، ترد فيها حسب أولوية وتأثير كل عامل. 

وبناء على ما تقدم، تقفز طبيعة القيادة السياسية لتكون العامل الأول المسؤول عن تقدم أي دولة وانحطاطها، فالقيادة السياسية هي مفتاح نجاح الدول وفشلها، وكلما كانت هذه القيادة موحدة، وواعية بحاجات الدولة التي تحكمها، وظروف البيئة المحلية والخارجية التي تتحرك فيها، وتمتلك رصيدا كافيا من الرؤية الاستراتيجية، والاستعداد للتضحية بوقتها وجهدها ومصالحها من اجل مصالح الدولة والشعب، فإنها تتحرر من الانانية والاستبداد والتهور في المواقف والقرارات، وتخطو بثبات نحو سياسات مدروسة تعزز نقاط القوة، وتتلافى نقاط الضعف، وتحول الازمات والمشاكل الى فرص، وتقلل عدد الأعداء في الداخل والخارج فيما تزيد عدد الأصدقاء والحلفاء، وتعمل على بناء الهوية الوطنية، وترسيخ القيم المدنية، وتمد جسور الثقة بينها وبين شعبها من خلال الإنجازات لا الشعارات، كما تعمل كل ما يمكنها لحماية كرامة الانسان والمجتمع، وتنمية قدرات الدولة لزيادة قوتها وحفظ سيادتها... ومثل هذه القيادة تعرف تماما ان تحقيق التقدم لا يحصل بين ليلة وضحاها، ولذا هي تتحلى بالإيمان والصبر وقوة الإرادة لبلوغ أهدافها، وتكون حريصة كل الحرص في تجنب الوقوع في الأخطاء على مستوى السياسات الداخلية والخارجية؛ لأنها تدرك ان الأخطاء تكلف ثمنا باهظا، لاسيما تلك الأخطاء المرتبطة بتحالفات وشراكات خارجية غير صحيحة او تلك المرتبطة بإثارة الحروب والصراعات الاهلية والدولية. ان وجود مثل هكذا القيادة هو أفضل ما يجود به الزمان على الدول التي يسعد حظها لتأخذ مكانها المتقدم بين الدول. 

وعلى العكس من ذلك تجده بالنسبة للدول التي ابتليت بقيادة سياسية غير مؤهلة، فأول بوادر انحدارها تراه في قيادتها السياسية؛ كونها قيادة انانية، منقسمة، مستبدة، متقلبة، محدودة الرؤية الاستراتيجية، كثيرة الشعارات وقليلة الإنجازات، متهورة في قراراتها، وسريعة التورط في الصراعات والحروب الاهلية والدولية...وهي باختصار تعبر عن نمط قيادي لا ينسجم مع متطلبات حكم الدولة الحديثة. ولأنه غير مناسب لحكم هكذا دولة، تراه يرتد بها نحو الوراء على مستوى الإدارة، والاجتماع، والاقتصاد، والثقافة، والروابط والعلاقات والمؤسسات. ولذا تجد ان الدول التي تحكمها مثل هذه قيادة تفقد جوهرها كدولة، فتغرق في الاستبداد تحت حكم طاغية يحول شعبها الى عبيد لحزبه واسرته واهوائه وقراراته المتهورة، كما فعل صدام حسين في العراق خلال سنوات حكمه التي انتهت بتدمير الدولة والمجتمع العراقي، وكما فعل معمر القذافي في ليبيا، واسرة الأسد في سوريا... او تغرق في صراعات سياسية وعسكرية كارثية تبث الخوف والرعب بين الناس؛ بسبب حكم امراء الحرب وزعماء الطوائف، كما حصل في رواندا وبورندي في عهد التسعينات من القرن الماضي، وكما نشهده اليوم في السودان، فضلا عما عانته الكثير من الدول الافريقية واللاتينية في مراحل مختلفة من تاريخها السياسي المعاصر. 

وفي كلتا الحالتين تعيش هذه الدول تحت وطأت سيل جارف من الفساد، وسوء الإدارة، والصراعات الداخلية، والحروب الخارجية، وتنامي العصبيات الدينية والمذهبية والقبلية والعشائرية والعرقية، وضعف القانون والمؤسسات الدستورية، وغياب الهوية الوطنية، والتدخلات الخارجية، والتدمير الممنهج لمؤسساتها الأمنية والعسكرية الوطنية، فضلا عن عدم الاستقرار الأمني والسياسي، والتراجع الاقتصادي، وهيمنة القيم غير المدنية، وانتشار الفوضى والجريمة المنظمة...

ان القيادة السياسية السيئة هي رأس كل الشرور في انحطاط الدول التي تحكمها، وقد تكون هذه القيادة نتاج الثقافة العامة السائدة في المجتمع، فكما يقال ان كل مجتمع يحصل على القيادة التي يستحقها، ولكن ذلك لا يعفي القيادة من مسؤولية بقاء الانحدار، واستمرار مسار التخلف والتراجع للدولة، فالقيادات السياسية وجدت لإصلاح ما هو معوج من الأمور، لنقل شعوبها نحو الأفضل، لا من اجل استدامة حالة التردي والانحطاط. ان القيادات الفاسدة تدمر أعظم الدول مهما كانت مواردها وامكاناتها هائلة، اما القيادات الصالحة فتنهض بأضعف الدول لتضعها في مراتب الدول القوية والمتقدمة.


يتبع...

أ. د. خالد عليوي العرداوي

أ. د. خالد عليوي العرداوي

العراق-كربلاء المقدسة

التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!