ليس جديداً القول بأن التغيرات المناخية أصبحت من أكبر التحديات الاقتصادية والإنسانية التي تواجه الجماعات البشرية في المعمورة، فهي تمثل مشكلة معقدة ومركبة ومتشعبة وتأخذ أشكالاً أكثر خطورة وتتولد من رحمها أزمات إنسانية واقتصادية واجتماعية وسياسية وصحية.... الخ.
وقد شهدت العقود الثلاثة الماضية تغيرات عنيفة في المناخ نتيجة تراكم انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون وزيادة نسبتها بشكل كبير، ويواصل تغير المناخ مسارهُ نحو مستقبل أكثر احتراراً وهناك بعض الآثار التي فرضتها هذه التغيرات لا رجعة فيها، وقد شهدت أنحاء عدة حول العالم تأثيرات غير مسبوقة على غرار القبة الحرارية وحرائق الغابات والفياضات وارتفاع مستوى سطح البحر وانهيار القمم الجليدية والجوع الوشيك بعد موجات الجفاف المستمرة.
وتُعد انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون وغازات الدفيئة الأخرى (غاز الميثان وغاز النيتروز وغيرها) محركاً رئيساً لتغير المناخ، وإن الارتباط بين درجات الحرارة العالمية وتركيزات غازات الاحتباس الحراري لاسيما ثاني أكسيد الكربون كان صحيحاُ طوال تاريخ الأرض.
وتُشير الإحصاءات الى إن درجات الحرارة العالمية ارتفعت بنحو 1.2 درجة مئوية فوق مستويات حقبة ما قبل الثورة الصناعية، وهذا الارتفاع من شأنه أن يؤدي الى حدوث تغيرات عنيفة في المناخ، الأمر الذي ينعكس على الجهود الرامية الى القضاء على الفقر، وبدون اتخاذ إجراءات عاجلة للحد من أوجه الضعف وإتاحة الوصول الى الخدمات الأساسية وبناء القدرة على مواجهة الازمات والتعافي من آثارها يمكن أن يؤدي آثار تغير المناخ الى دفع 100 مليون شخص آخرين في براثن الفقر، في حين تبلغ خسائر الكوارث الطبيعية المتطرفة نحو 250 مليار في الاستهلاك السنوي ويؤدي الى إفقار 26 مليون شخص سنوياً، في حين تبلغ التكاليف المباشرة للمشاكل الصحية التي يسببها التغير المناخي ما بين 2-4 مليار دولار بحلول عام 2030، وتسبب بأكثر من 7 مليون حالة وفاة مبكرة سنوياً(1).
من جانب آخر، يمثل انعدام الأمن الغذائي ونقص التغذية الأثر الأبرز الناتج عن التغير المناخي، ومن المتوقع أن ينخفض انتاج القمح والرز بنحو 6% و10% على التوالي جراء كل ارتفاع إضافي قدره درجة مئوية واحدة في درجات الحرارة العالمية.
لقد زادت انبعاثات غازات الدفيئة البشرية المنشأ منذ حقبة ما قبل الصناعة، مدفوعة إلى حد كبير بالنمو الاقتصادي والسكاني، وهي الآن أعلى من أي وقت مضى، وقد أدى ذلك إلى تركيزات ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروز في الغلاف الجوي لم يسبق لها مثيل في آخر 800000 عام على الأقل.
وتشير التقديرات إلى إن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المرتبطة بالطاقة العالمية قد انتعشت بأكثر من 4٪ في عام 2021 بسبب انتعاش الطلب على الفحم والنفط والغاز، وهذه الزيادة هي الأكبر منذ الانتعاش الاقتصادي كثيف الكربون ما بعد الأزمة المالية العالمية، ويوضح المخطط الآتي الآثار التي تفرزها التغيرات المناخية في الاقتصاد العالمي.
مخطط (1) الآثار الاقتصادية للتغيرات المناخية
المخطط من عمل الباحث
وتشير التقديرات الى حاجة الدول النامية والمتوسطة الدخل الى ما يقارب 90 ترليون دولار لتجديد البنى التحتية التي تتسم بالقدرة على مواجه آثار التغيرات المناخية والتحرك في مسار التنمية منخفضة الكربون في حين تُشير تقديرات الوكالة الدولية للطاقة الى إن الحد من ارتفاع درجات الحرارة بأقل من درجتين مئويتين يتطلب استثمارات تبلغ 3.5 ترليون دولار سنوياً في قطاع الطاقة حتى عام 2050.
• العراق والتغير المناخي: المشكلات والمُمكنات
يٌعد العراق من أكثر الدول تأثراً بالتغيرات المناخية، وقد تم تحديدهُ كواحد من أكثر الدول هشاشة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وقد شهد خلال السنوات الماضية اضطرابات وتغيرات مناخية واضحة وملموسة، إذ سجلت درجات الحرارة ارتفاعات كبيرة، وانخفضت هطول الامطار، وازداد الجفاف، وشح المياه والتصحر، وزيادة تركيزات غاز ثاني أوكسيد الكربون CO2 وغيرها من الظواهر الشديدة، والتي كانت لها تبعات على صحة الإنسان أولاً وعلى القطاعات الرئيسة مثل المياه والزراعة وانعدام الامن الغذائي فضلاً عن إعاقة الجهود الرامية للحد من الفقر وزيادة الرخاء المشترك.
ففيما يتعلق بدرجات الحرارة، فقد زادت موجات الحر وتخطت 50 درجة مئوية خلال فصل الصيف، وكانت لها آثار مدمرة على الامن الغذائي والمائي وهددت سبل العيش للكثير من الافراد.
شكل (1) متوسط درجات الحرارة في العراق خلال المدة 1901-2021
الشكل من عمل الباحث بالاستناد الى:
- Word Bank ،متوفر على الرابط، Iraq - Climatology |Climate Change Knowledge Portal
وتُشير التقارير والبيانات الى إن درجة الحرارة شهدت ارتفاعاً مُطرداً في جميع انحاء البلاد منذ خمسينات القرن الماضي وبمتوسط بلغ 0.7 درجة مئوية بالمقارنة مع ما كانت عليه قبل 100 عام، ومن المتوقع أن يرتفع متوسط درجات الحرارة بنحو 2-3 درجة مئوية على مدار الـــ 100 عام القادمة، وقد ارتفع متوسط درجات الحرارة خلال المدة 1901-2021 بنحو درجتين مئوية وهي أعلى حتى من المتوسط العالمي، وإن من شأن هذا الارتفاع في درجات الحرارة أن يقوض الأراضي الصالحة للزراعة وانخفاض الناتج الزراعي وانتاجية العمل مما يهدد الامن الغذائي، الأمر الذي دفع وزارة الزراعة والموارد المائية الى تقليص الأراضي الصالحة للزراعة بنحو 50% بسبب نقص المياه وارتفاع الملوحة مما هدد سبل عيش المزارعين.
أما فيما يتعلق بانبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون والذي يمثل العامل الأبرز في ظاهرة الاحتباس الحراري فقد شهد هو الآخر ارتفاعات واضحة وكبيرة لا سيما خلال العقدين الماضيين، وكما موضحة في الشكل الآتي.
شكل (2) انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكاربون التراكمية في العراق للمدة 2001-2020 (مليار طن)
المصدر: اقتبسه الباحث بتصرف من
- البنك المركزي العراقي: قسم الاستقرار النقدي والمالي، تقرير الاستقرار المالي لعام 2021، العدد الثاني عشر، بغداد، 2022، ص33.
من خلال الشكل يتضح إن حجم الانبعاثات التراكمية ارتفعت من 1.995 مليار طن في عام 2001 تصل الى 4.657 مليار طن وبمعدل نمو مركب بلغ 4.3% خلال المدة 2001-2020، ويساهم قطاع النفط بنحو 40% من الانبعاثات بسبب حرق الغاز المصاحب.
وبالنسبة لغازات الدفيئة الأخرى والمتمثلة في غاز أوكسيد النيتروز N2O وغاز الميثان CH4 والغازات الأخرى والتي لها أثر عميق في التغير المناخي فيمكن توضيح أهم القطاعات المساهمة في هذه الانبعاثات من خلال المخطط (2).
مخطط (2) مساهمة القطاعات في انبعاثات الغازات في العراق
المخطط من عمل الباحث بالاستناد الى
- البنك المركزي العراقي: قسم الاستقرار النقدي والمالي، تقرير الاستقرار المالي لعام 2021، العدد الثاني عشر، بغداد، 2022، ص18-20.
• الإجراءات الحكومية المتخذة لمواجهة التغير المناخي
حاولت الحكومية العراقية اتخاذ إجراءات للتخفيف من حدة التغير المناخي، إذ صادقت على اتفاقية باريس في عام 2021، وحاولت الحصول على تمويل لمواجه المناخ من خلال صندوق المناخ الأخضر والمرتبط باستيفاء الشروط المنصوص عليها في اتفاقية باريس، ويسعى العراق الى جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية في مجال الطاقة النظيفة التي يمكن أن تعزز الامن الغذائي وإنتاج الغذاء.
من جانب آخر، أنهى العراق مساهمتهُ المحددة وطنياً (وبدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي) متعهداً بخفض 1-2% من الانبعاثات وبشكل طوعي بحلول عام 2030، وتتضمن الخطة خفض الانبعاثات بنسبة تصل الى 15%، وسينصبّ تركيز اهداف هذه الخطة على قطاعات النّفط والغاز والكهرباء والنقل والتي تنتج مجتمعةً 75٪ من إجمالي انبعاثات غازات الدفيئة في العراق.
وتُشير التقارير الى إن إن تطوير المساهمة المحدّدة وطنيًّا سيمهد الطريق لاستثمارات قد تصل إلى 100 مليار دولار أمريكي للمساعدة في عدم تأثّر الاقتصاد بتغيّر المناخ على مدى السّنوات العشر القادمة،
من جانب آخر، قدمت رئاسة الجمهورية نص مشروع إنعاش بلاد الرافدين لمواجهة آثار التغير المناخي والذي تبناه مجلس الوزراء، والذي أشار الى إنه يجب أن يصبح التصدي لتغير المناخ أولوية وطنية للعراق، ولا مجال للتقاعس، وأوضح إن 54% من أراضي العاق تتعرض للتدهور، ويؤثر التصحر على 39% من مساحة البلاد، وقد تضرر حتى الان 7 مليون عراقي من الجفاف والنزوح وسيواجه العراق عجزاً قد يصل إلى 10.8 مليار متر مكعب من المياه سنوياً بحلول عام 2035.
وتتمثل رؤية نص المشروع بتحويل حالة الطوارئ الى فرصة من أجل التكيف مع آثار تغير المناخ من خلال خطة عمل تستند الى رؤية عمل تهدف لتوفير ظروف أفضل لأجيالنا القادمة.
يستند هذا المشروع (مشروع إنعاش بلاد الرافدين) على تسع خطوات موضوعية لإحداث تغيير حقيقي وهي مصممة لمواءمة وتعزيز أهداف المناخ الأوسع للحكومة العراقية، لتأكيد وتعزيز التزامها باتفاق باريس للمناخ، ولتقديم حلول إقليمية للتحديات المشتركة المتعلقة بالمناخ، ولضمان نجاح المشروع، لا بد من جهد وطني متضامن تُشارك فيه كل مفاصل الدولة لتمكين جميع الوزارات ذات الصلة لتصميم وتنفيذ سلسلة من السياسات والقوانين، وسيتطلب هذا إنشاء مؤسسات جديدة متخصصة مهمتها معالجة القضايا المتعلقة بتغير المناخ على وجه التحديد، وسيجمع بين إنفاق الدولة والتمويل من الصناديق الخضراء وأسواق رأس المال الخاص والمانحين الدوليين لتمويل الاستثمار الجديد والكبير في هذ الصدد. ويمكن توضيح البرنامج من خلال المخطط الاتي
مخطط (3) برنامج إنعاش وادي الرافدين
المخطط من عمل الباحث بالاستناد الى
رئاسة جمهورية العراق، متوفر على الرابط، مشروع إنعاش بلاد الرافدين لمواجهة التغيّر المناخي في العراق
إجمالاً، وعلى الرغم من كل الخطوات والإجراءات التي اتخذتها الحكومة لمواجهة التغير المناخي إلا هناك الكثير من العمل الذي يجب القيام به من أجل التخفيف من حدة التغيرات المناخية منها:
أولاً: بناء الوعي المجتمعي لدى افراد الشعب بخطورة التغيرات المناخية وانعكاساتها على المجتمع من خلال تبني استراتيجيات خاصة بهذا الشأن، واشراك المجتمع المدني لا سيما الناشطين في مجال البيئة والمناخ في هذه الاستراتيجيات.
ثانياً: إن العامل الأبرز والمهم هو ضرورة بناء نظام مالي اخضر والاستفادة من الاتجاهات الحديثة في تمويل المشاريع المراعية للبيئة والمنخفضة الانبعاثات مثل (السندات الخضراء والأسهم الخضراء والاستثمارات المراعية للبيئة) ووضع اللوائح والتنظيمات المنظمة للعمل بها، وعلى سوق العراق للأوراق المالية تشجيع المستثمرين على الاستثمار في المجالات والمشاريع الخضراء وإدراج الشركات التي تتداول بالأسهم الخضراء، والاستفادة من المؤسسات المالية الدولية والمؤسسات المانحة للتمويل الأخضر، ومحاكاة التجارب الناجحة في هذا المجال وتطبيقها في العراق.
المصادر:
1- تغير المناخ، البنك الدولي، متوفر على الرابط، http://www.albankaldawli.org/ar/topic/climatechange/overview