العراق منتصف القرن الماضي: عناء وأمل

      طلبت حكومة العراق من البنك الدولي IBRD في اكتوبر عام 1950 تقديم تقرير شامل عن وضع العراق الاقتصادي ومقترحات للتنمية. وصلت بعثة البنك الى العراق في شباط 1951 واكملت جمع البيانات والاطلاع والتشاور في مايس من نفس العام، وفي شباط عام 1952 قدمت البعثة تقريرها الى رئيس الوزراء بعنوان التنمية الاقتصادية للعراق  The Economic Development of Iraq والذي كان من الاسس التي اعتمدت عليها برامج التنمية Development Programs ، التي كانت تسمى بلغة تلك الأيام مناهج الأعمار التي ادارها مجلس الأعمار (التنمية) الذي تأسس عام 1950 . وبموجب القانون الذي اسس مجلس الأعمار أصبح لمنهج الأعمار موازنة مستقلة بإيرادات ونفقات، ومحاسبة وتدقيق، والتي صارت تسمى الموازنة الاستثمارية* في العهد الجمهوري ولحين اعادة توحيد الموازنة. 

   ويشير التقرير ان سكان العراق عام 1950 حوالي خمسة ملايين نسمة، والبدو منهم بحوالي 200 ألف، وحسب البيانات التي نشرت لاحقا ربما يكون سكان العراق حوالي 5.160 مليون نسمة. ويقدر التقرير متوسط الدخل للفرد 30 دينار او 84 دولار، في السنة (ما يعادل 910 دولار) بالقوة الشرائية لكانون الثاني عام 2018 بالقياس الاعتيادي، وهو تخمين تقريبي اذ لم تعد آنذاك حسابات قومية نظامية، وهذا يعني ان مستوى المعيشة حوالي 15 -17 بالمائة من المستوى الحالي، وقد يكون أدنى إذا ما اعتمدت مؤشرات اخرى دالة مباشرة على مستويات الاستهلاك وانماط العيش. 

 ووفق منشورات مركز جامعة Groningen للتنمية والنمو GGDC لعام 2018، والذي قام بتحديث تقديرات ماديسون المعروفة، فإن متوسط الناتج المحلي للفرد في العراق بالدولارات الدولية متعادلة القوة الشرائية لعام 2011 في عام 2011 يعادل 407 بالمائة مما كان عليه عام 1950، وبتعبير آخر ان متوسط الدخل للفرد عام 1950 يعادل 24.6 بالمائة من مستواه لعام 2011، وهذه المؤشرات ليست بعيدة عما اوردناه آنفا. وكان متوسط الدخل في العراق عام 1950 اعلى من شرق آسيا ومصر وأدنى من السعودية. والعراق عام 1950 في متوسط الدخل للفرد يعادل 308 بالمائة مما كان عليه عام 1870 حسب تقدير GDC المذكور آنفا. وتفيد هذه المؤشرات كيف كان الناس في العالم النامي، ومنه العراق، يعانون قسوة اوضاعهم الاقتصادية. 

 ويذكر ان 90 بالمائة من سكان العراق حينها اميّون، والكثير منهم عرضة للأمراض الموهِنة مثل البلهاريزيا والملاريا ودودة الأنكلستوما، التي تسبب فقر الدم. وفي سنة 1949 عالجت الوحدات الصحية حوالي 5.9 مليون حالة مرضية منها 493 (ألف تقريبا) بالملاريا، والتي ترتفع الإصابة بها اوقات الفيضان فمثلا عام 1946 حوالي 743 (ألف) حالة شهدتها الوحدات الصحية وتلك كانت سنة فيضان. وكانت معدلات الإصابة بالتراخوما ايضا عالية في عام 1946 حوالي 558 (ألف حالة) ومجموع حالات الأمراض المعدية التي عالجتها الوحدات الصحية 1189 (ألف حالة) عام 1949 وهي كثيرة نسبة الى السكان الذي لا يزيد على خمسة ملايين نسمة. وأواخر الاربعينات كان سكان العراق 4.750 مليون نسمة، وعدد الأطباء في كل العراق 797 طبيب. والسكن والصرف الصحي بدائي لأغلبية السكان. ويرتبط ذلك البؤس بالإنتاجية الواطئة للعمل ارتباطا بالتخلف التقني والمستوى المنخفض لراس المال للعامل وبالتالي انخفاض الناتج والناتج المحلي للفرد. وقد كانت مقترحات التنمية، التي قدمتها بعثة البنك الدولي، متفائلة بالاتفاقية التي عقدتها الحكومة مع شركات النفط في آب 1951 والتي ألزمت الشركات بمناصفة ارباح النفط مع الحكومة.

   وجاءت اتفاقية مناصفة الأرباح، بين العراق وشركات النفط، متزامنة مع مطالبة إيران بها، أي ربما ايقنت الشركات أن الاوضاع السياسية لا تسمح بالإبقاء على سياساتها السابقة. 

   والذي حصل في ايران ان تمنّعت شركة النفط البريطانية، "الأنجلو-فارسية"، عن الاستجابة لمطلب مناصفة الأرباح، فصوت البرلمان الإيراني بمجلسيه على تأميم النفط اواخر نيسان من عام 1951، وبسبب هذا التأميم اسقِطت حكومة مصدق، فيما بعد، بمؤامرة امريكية بريطانية معروفة. بينما كانت شركة ارامكو، الأمريكية، تناصف الأرباح مع السعودية اصلا.   

اتفاقية مناصفة الأرباح وزيادة انتاج النفط ساعدتا العراق على تمويل مشاريع للسيطرة على المياه وتنظيمها، وتطوير البناء التحتي والنهضة التي شهدها العراق في السنوات القليلة التي سبقت الجمهورية، وفيما بعد.

 وكانت شركات النفط في العراق انتجت، فقط، 6.37 مليون طن من النفط الخام عام 1950، أي حوالي 126 (ألف برميل) في اليوم، ويرتفع الى 155 (ألف برميل) في اليوم عام 1951، والذي لا يتناسب ابدا مع الاحتياطيات النفطية للعراق ولا مع احتياجاته للتمويل. وتعهدت الشركات، في تلك الاتفاقية، برفع الإنتاج الى 30 مليون طن في السنة نهاية عام 1955 أي 592 (الف برميل في اليوم)، وفي عام 1960 وصل الإنتاج في العراق 972 (الف برميل في اليوم) ورغم انه اعلى بكثير مما كان عليه بداية الخمسينات بقي اقل من انتاج الكويت، الذي يزيد على 1.6 مليون برميل في اليوم عام 1960. 

        ويفهم من تلك البيانات ان الشركات كانت سياستها مع العراق مغرضة، حتى ان عمليات الاستكشاف كانت محدودة او تعمدت الشركات التعتيم على الثروات النفطية الكبيرة للعراق، حيث يذكر تقرير البعثة ان احتياطيات العراق النفطية في كركوك بحوالي مليار طن ومثلها تقريبا في البصرة ولا يزيد على ذلك، بينما الاحتياطيات المعلنة هذه السنوات تبلغ عشرة امثال تلك المذكورة في التقرير عدا كردستان، آخذين بالاعتبار ما استنزفه الإنتاج منذ عام 1950.  

ويذكر في تقرير البعثة ان 60 بالمائة من العراقيين يعيشون على الزراعة، وهو تقدير يتناسب مع الحجم النسبي لسكان الريف آنذاك* . وان الكثير من المياه تُهدر لقلة الإمكانات الخزنية. ولذلك بقيت الفيضانات تجتاح مساحات شاسعة في الربيع، وتكرر الفيضان ثمان مرات بين سنتي 1923 و1949، وتشح المياه عادة في الخريف. والزراعة لا تعاني فقط من مشكلة انتظام المياه على مدار السنة بل وارتفاع الملوحة في تربة الأراضي المروية. واظهر التقرير ان الدولة كانت مهتمة ومهيأة لبرامج استثمارية في السدود والخزانات وإنشاءات ادارة المياه، من دجلة والفرات والروافد، لكن الموارد شحيحة والإمكانات تبعا لذلك محدودة. وعلى سبيل المثال يعمل في المديرية العامة للري التي كانت تابعة لوزارة الأشغال والاتصالات 1330 منتسب منهم 26 مهندس فقط. وكانت، وكما هو المتوقع، تقنيات الانتاج الزراعي بدائية، مع قلة حيوانات الحرث والمكائن، والعاملين في الزراعة عاطلين في الجزء الأكبر من السنة. ومساحة الأرض القابلة للزراعة 48.1 مليون دونم والتي تزرع فعلا 11.1 مليون دونم (الدونم ربع هكتار). وتفيد  البيانات ان الثروة الحيوانية كانت مرتكزا للأمن الاقتصادي بحوالي 7.5 مليون من الضأن و 1.8 مليون تقريبا من الماعز وأكثر من مليون بقرة، و200 الف من الجاموس وحوالي 280 الف من الجمال، وهذه المؤشرات تتضح دلالاتها عندما تقارن بحجم السكان او عدد الأسر وهي اقل من مليون اسرة. 

 ونبّه التقرير الى قسوة الوضع الاقتصادي للفلاح، وهو مدين على الأغلب لمالك الأرض ما يضطره الى البقاء هناك مهما بلغت صعوبة العيش. وقد أنهكت تلك المعاناة سكان الريف وصحتهم، وان فقر المجتمع الزراعي يضيّق سوق المنتجات الصناعية، وربما يهدد الاستقرار الاجتماعي. ومن جهة اخرى لاحظت البعثة ان دوافع الأنفاق لتحسين الإنتاج الزراعي ضعيفة لدى ملاك الأرض، " يأخذون الكثير ولا ينفقون إلا القليل"، لكن توجد بعض الأمثلة على توجهات جديدة نحو تنويع الإنتاج وتحسين التقنيات لكنها محدودة. 

 وفي كافة القطاعات غير الزراعية يعمل 450 (ألف) عام 1950، ويذكر ان العاملين في النفط آنذاك 12 (الف)، وتوجد بطالة في المدن، والصناعة ايضا بدائية واكثرها يدوية بمنشآت صغيرة، ومع ان العاملين في الصناعة 60 الف لكن 2000 فقط يعملون على صناعات توصف بأنها حديثة. ويستفاد من هذه المؤشرات ان 4-5 بالمائة من القوى العاملة كانت في الصناعة وهي منخفضة ايضا رغم ان الخاصية النفطية للعراق لم تكن قد ظهرت بعد. وتقدر رؤوس اموال الصناعات الحديثة، غير اليدوية، اربعة ملايين دينار عراقي وتعادل 11.2 مليون دولار من دولارات ذلك الزمن، وتكافئ حوالي 121 مليون دولار بالقوة الشرائية لكانون الثاني 2018. من تلك البيانات يبدو واضحا ان اقتصاد العراق كان زراعيا متخلفا، والمجتمع فقير يعاني شظف العيش، وقد ساعدت زيادة موارد النفط العراق كثيرا، لكن من جهة اخرى اضعفت سياسات التصرف بالمورد النفطي دوافع تنمية الإمكانات الإنتاجية والتصنيع. 

 في قطاع النقل لم يؤيد التقرير بناء ميناء ام قصر، الذي يدور الحديث حوله من سنوات، ويرى ان ميناء البصرة يكفي وادارته المالية مناسبة. والسكك الحديد تبدو في حينه مؤسسة ناجحة وفعالة، لكنها التزمت برنامجا استثماريا مكلفا اضطرها لاستخدام جميع الأموال المخصصة للتجديد، واقترضت من حكومة العراق مليون دينار ومن حكومة بريطانيا 3 مليون دينار. وبالمقارنة، لمعرفة الحجوم النسبية للقطاعات، نلاحظ ان قروض السكك تعادل كل رؤوس اموال الصناعة.  

 ومع ذلك اوصت البعثة بتحويل خطوط السكك من المتري الى القياسي Standard، لتماثل خط بغداد الموصل الذي يربط العراق بسوريا وتركيا.

وتوجد 20826 سيارة عام 1950، منها 9388 سيارات حمل وحافلات؛ و1636 دراجة بخارية. وأكثر الطرق الرئيسية ليست معبدة، فقط 2500 كيلو متر مرصوفة ومعبدة.

 في عام 1950 كانت اغلبية سكان العراق في الريف والمدن الصغيرة، ويعيش في مدينة بغداد حوالي نصف مليون نسمة، وبعدها الموصل وتعادل ربع سكان بغداد، ثم البصرة وكركوك والعمارة والنجف وكربلاء. وشبكات مياه الشرب الحديثة لم تغطي كل المدن، أي ان الذين يعتمدون على شبكات مياه شرب حديثة اقل من 40 بالمائة من السكان، والكهرباء تولّد بمحركات ديزل وتجهّز من البلديات، وتستخدم عادة للإنارة. وفي الوقود المنزلي كانت الأسر الريفية تعتمد على مخلفات الحيوانات والأشواك والأخشاب، وفي المدن تستخدم الاشواك والأخشاب والفحم الخشبي والكيروسين وقودا.

لقد تضمن تقرير بعثة البنك الدولي برامج استثمار بعيدة الأمد حسب القطاعات وتخمين لتكاليفها. وقدم ايضا مؤشرات خطة تعليم الزامي للكبار، ودعا الى تعميم التعليم وطنيا، والسيطرة على التسرب، لأن معدلات التسرب كانت عالية في التعليم الابتدائي، فضلا عن عدم الالتحاق اصلا. 

   ويمكن القول دون مبالغة ان العراق حتى مطلع خمسينات القرن الماضي يختلف نوعيا عن عراق الوقت الحاضر في مستوى المعيشة وانماط الحياة الحضرية والريفية وفي التعليم والصحة والنقل والاتصالات.  وللتذكير ان مورد النفط لم يكن له الوزن الكبير في تمويل الأنفاق العام حتى نهاية الأربعينات وفي عام 1950 لا يتجاوز اسهامه 20 بالمائة، لقد تبلورت الهيمنة النفطية فيما بعد.

التعليقات