ظاهرة العزوف الانتخابي: قراءة في الحلول والمعالجات السياسية والقانونية

تتباين معالجات وحلول العزوف الانتخابي في العراق بين من يقع على عاتق الحكومة ومؤسساتها وادواتها السياسية، وما يقع على عاتق المجتمع والافراد، وبين ما يقع ضمن المسؤولية المشتركة بينهما، وتتوزع الحلول والمعالجات بين ما هو سياسي وقانوني وبين ما هو اجتماعي واقتصادي وقيَّمي. وسنحاول في هذه المقالة تسليط الضوء على الحلول والمعالجات المتعلقة بالجوانب السياسية والقانونية:

أولًا: الحلول والمعالجات السياسية

إنَّ المعالجات والحلول السياسية لظاهرة العزوف الانتخابي، أو مقاطعة الانتخابات، تتباين بين ما يقع ضمن مسؤولية الحكومات والنظام السياسي والسلطتين التشريعية والقضائية وبين ما يقع على عاتق المؤسسات التربوية والتعليمية ومنظمات المجتمع المدني، ولاسيما تلك المؤسسات المسؤولة عن تنشئة المجتمع سياسيًا، كالأسرة والمدرسة والمؤسسات التعليمية. ولعل أهم الحلول السياسية لمعالجة ظاهرة العزوف الانتخابي تكمن في إعادة الثقة بين الدولة والمجتمع، وبتعبير ادق بين الحاكم والمحكوم، من خلال إعادة ثقة المجتمع بالنظام السياسي والعملية السياسية والتجربة الديمقراطية بشكل عام، ومدى شفافية الحكومات في مكافحة الفساد فعليًا وتأطير عمل الأحزاب بقانون صارم، وتقنين تدخلاتها السياسية في السلطتين التشريعية والتنفيذية وكذلك القضائية، فضلاً عن ذلك، ضرورة التخلي عن العرف السياسي السائد في تشكل الحكومات العراقية بعد عام 2003، من خلال تمكين الحزب الفائز بالانتخابات وإعطاءه مهمة تشكيل الحكومة، بعيدًا عن التوافقية والمحاصصة الحزبية والقومية والطائفية، واعطاء رئيس الوزراء المرشح حرية اختيار الكابينة الوزارية؛ وذلك لما له من انعكاس إيجابي على قناعات المواطنين، ولاسيما اذا ما تبنى حزب أو كتلة معينة تشكيل الحكومة وتحمله مسؤولية نجاح وفشل الحكومة على كافة المستويات، ومدى انعكاس ذلك جماهيريًا؛ الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع نسبة المشاركة السياسية وزيادة نسبة المصوتين بشكل تدريجي. بالإضافة إلى ذلك، العمل على تمدين المجتمع وتوعيته وتثقيفه بعيدًا عن ثقافة العسكرة، وأهمية حصر السلاح بيد الدولة واخضاع الجماعات المسلحة إلى الدستور وقانون وزارتي الداخلية والدفاع، بعيدًا عن الانتماءات الحزبية والفرعية.  وهذا من شأنه أن ينعكس إيجابًا على طبيعة المشاركة السياسية وعملية الاندماج بين المجتمع والنظام السياسي.

ثانيًا: المعالجات القانونية والدستورية

يعد الفكر الدستوري والسياسي، وطريقة وضع الدستور وطرق تعديله واحترام مبدأ فصل السلطات، وانفتاحه على المجتمع بكل مكوناته السياسية والمدنية، ثم احترامه للأعراف والقواعد غير المكتوبة، مؤشرات لدولة القانون التي تحترم مواطنيها وتوفر لهم كافة الضمانات في حق الاختلاف السياسي والمدني والثقافي. ولا شك أن الإصلاح الدستوري سيحدث تغييرًا ودفعة معنوية للمجتمع من أجل إعادة الثقة للمجال السياسي وللانتخابات. ولعل أهم الإصلاحات أو المعالجات القانونية تكمن في إيجاد الآليات القانونية اللازمة والاتفاقات السياسية على التعديلات الدستورية، ولاسيما في موضوعة الكتلة الأكبر والمادة 76 من الدستور العراقي؛ وذلك بمنح الكتلة الفائزة في الانتخابات حق تشكيل الحكومة دون الحاجة إلى ائتلافات وتحالفات سياسية؛ مما يضع قيمة سياسية قوية وفاعلة على المستوى المادي والمعنوي للانتخابات، ويعطيها اهتمام جماهيري وشعبي أكثر، فالمواطن حينما يرى هناك قيمة سياسية وقانونية لرأيه وصوته الانتخابي، سيحرص على المشاركة السياسية بلا أدنى شك. كذلك العمل على تشريع قانون انتخابي يلائم تطلعات جميع مكونات الشعب وتبايناته السياسية والاجتماعية، بما فيه الترشيح الفردي والمستقل، وأن يضمن الفرص بالتساوي للجميع ويمكنهم من حق تمثيل الشعب داخل قبة مجلس النواب، بعيدًا عن التحالفات وهيمنة القوى السياسية التقليدية على القرار التشريعي، كأن يكون قانون الدوائر المتعددة؛ وذلك لما يعطيه هذا القانون من حق المسائلة للنائب ومسؤوليته القانونية والسياسية اتجاه ناخبيه، كذلك ضرورة الإشارة في القانون الانتخابي على منع انتقال النواب قبل تشكيل الحكومة، واعتماد الدوائر المتوسطة، واستعمال نظام الصوت الواحد، ممَّا يحد من ظاهرة التشتت السياسي، ويعزز جانب المسائلة الشعبية، ويحقق العدالة الانتخابية. وضرورة تشريع قانون تجريم التشهير بالمفوضية والتشكيك بنزاهتها من دون دليل، أو إيجاد رادع قانوني لكل مَن يحاول التشكيك بعمل المفوضية إعلاميًا من دون وجود دليل، ولاسيما من القوى والاحزاب السياسية المشاركة في الانتخابات أو الخاسرة انتخابيًا، ومعاقبتها بأبعادها من الانتخابات نهائيًا. فضلًا عن ضرورة معالجة كل الفقرات الدستورية التي إشار إليها الدستور بأنها تُعدل بقانون، وتفعيل المواد الدستورية المعطلة، او المجالس الدستورية المعطلة. كذلك من الضروري اخضاع العلاقة بين المركز وإقليم كردستان إلى الدستور العراقي، وبسط السلطة المركزية على كل منافذ الإقليم ومطاراته وغيرها من الأمور التي تخضع لمعايير العمل التي تأخذ بها الانظمة الفيدرالية. فضلًا عن ذلك، لابد من اخضاع الأحزاب والقوى السياسية لقانون الأحزاب، ومسائلتها ماليًا وقانونيًا وطرق تمويلها، وحظر تلك التي تمتلك أجنحة عسكرية موازية للقوات الامنية العراقية، او منعها من المشاركة في الانتخابات، كما إشار لها قانون الاحزاب وقانون الانتخابات ومن قبلهما الدستور العراقي، ومحاسبة الأحزاب السياسية التي توهم المواطن أو تستغله بشراء صوته من خلال الدعايات الانتخابية الرخيصة والهزيلة، وتفعيل دور البرلمان التشريعي والرقابي وابعاد سطوة رؤساء الكتل والاحزاب السياسية عليه، وتطيق النظام الداخلي بحق المخالفين والمتغيبين.

بالمجمل، لا يمكن للأنظمة السياسية الهجينة أن تبني دولًا قوية، ولا يمكنها أيضًا أن تحقق المصالح الوطنية والاندماج الوطني، وأن تكون أنظمة فاعلة على المستويين (الداخلي والخارجي) من دون أن تفك الارتباط بين القيم الديمقراطية الحقيقية والممارسات التسلطية التي تشوه القانون وتقفز على الدستور وتصدع الثقة بين الحاكم والمحكوم، فضلًا عن الثقة بين مكونات المجتمع. فمن مفارقات هذه الانظمة بأنها تدعي الديمقراطية أكثر من غيرها، بالرغم من أن الديمقراطية جاءتها تحت دفع الموجة الثالثة من الديمقراطية، وعليه فـالعمر الزمني لهذه الديمقراطيات "وفق تقدير بعض المتخصصين" ربما لا يتجاوز النصف قرن في أقصى الحدود، وهذا أمر في حد ذاته يخلق إشكالية الترسيخ الديمقراطي، ويطرح إشكالية الديمقراطيات غير المكتملة أو الانظمة السياسية الهجينة التي تعيش على المزج بين القيم الديمقراطية والسلوكيات التسلطية على مختلف الاصعدة؛ الأمر الذي يضع البلد في حالة من عدم الاستقرار السياسي؛ لهذا فأن الاخذ بالحلول والمعالجات "إعلاه" قد يرسخ الديمقراطية بشكل تدريجي ويبعد البلد عن التغيير الراديكالي؛ الأمر الذي من شانه أن يحفظ المصالح الوطنية ويحقق الرضا والقبول الشعبي تدريجيًا.

التعليقات