عالم أكثر انقساما وخطورة بعد عام من الحرب الروسية-الأوكرانية

في الرابع والعشرين من شهر شباط-فبراير الماضي دخلت الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثاني وسط مؤشرات كثيرة على أن هذا الصراع سيطول وسيخلف المزيد من المشاكل والاضرار والمآسي، نتيجة التقاطع الشديد في المصالح بين اطرافه الرئيسة وعدم استعدادهم للجلوس على طاولة مفاوضات البحث عن خطة ما للسلام ما لم تتحقق أهدافهم، على الأقل هذا ما كشفه رد كل من موسكو وواشنطن على مبادرة السلام الصينية التي اطلقتها بكين في الذكرى الثانية للحرب، فقد سخرت منها واشنطن على لسان الرئيس بايدن بالقول: ان " تنفيذها لن يفيد سوى روسيا"، وأضاف: " بوتين يصفق لها، فكيف يمكن أن تكون جيدة؟". اما ديميتري بيسكوف المتحدث الرسمي باسم الكرملين فقال عنها: انها "تستحق الاهتمام"، ولكن " في الوقت الراهن، لا نرى الظروف التي من شأنها أن تضع هذه القضية على مسار سلمي".

لقد خلفت هذه الحرب في عامها الأول مئات الالاف من القتلى والجرحى لدى الجانبين، وشردت الملايين من الاوكرانيين داخل وخارج بلادهم، والحقت اضرارا مدمرة في البنية التحتية لدولة ذات سيادة تصل الى مئات المليارات من الدولارات، ناهيك عما تركته من ارتدادات سلبية على الاقتصاد العالمي، تلك الارتدادات التي زادت معدلات الفقر والبطالة حول العالم، وعطلت مسارات التنمية والتطور في كثير من الدول النامية والمتقدمة، على حد سواء.

ولكن أكبر اضرار هذه الحرب هي تلك التي ظهرت في حقل العلاقات الدولية، اذ زاد الانقسام بشكل كبير في المواقف بين القوى الدولية، واتضح ذلك بشكل جلي في خطابي الرئيسين بوتين وبايدن يوم الثلاثاء الموافق 21 شباط-فبراير الماضي، ففي خطابه الى الامة الروسية امام الجمعية الفدرالية قال الرئيس بوتين: " اتحدث في لحظة صعبة ومهمة لروسيا، في فترة تشهد تغييرات أساسية في جميع انحاء العالم"، وزعم أن " النخب الغربية لا تخفي هدفها: الحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، أي القضاء علينا مرة واحدة والى الابد"، ثم أضاف: " الغرب لم يحقق شيئا ولن يحقق شيئا"، وأخيرا اعلن عن تعليق مشاركة روسيا في معاهدة ستارت 3 الخاصة بالأسلحة الهجومية الاستراتيجية.

من جانبه اشار الرئيس الأمريكي بايدن، في نفس اليوم، اثناء خطابه من وارشو الى أن الرئيس بوتين: "كان يعتقد أن المستبدين من أمثاله صارمين، وان قادة الديمقراطيات يتسمون باللين"، وأضاف: " دعمنا لأوكرانيا لن يتزعزع، ولن ينقسم حلف شمال الأطلسي، ولن نكل"، واصفا الحرب مع روسيا بأنها " اختيار بين الفوضى والاستقرار، بين البناء والهدم، بين الأمل والخوف، بين الديمقراطية التي ترتقي بالروح البشرية واليد الوحشية للديكتاتور الذي يسحقها".

وشاطر الرئيس بايدن في موقفه من روسيا بقية حلفائه الغربيين، اذ قالت أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية بعد اصدار حزمة جديدة من العقوبات على موسكو: " لدينا الان العقوبات الأقصى على الاطلاق اذ تستنزف ترسانة روسيا الحربية وتنهش اقتصادها"، فيما قال جوزيب بوريل ممثل السياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوربي: " سنواصل زيادة الضغط على روسيا، وسنفعل ذلك مهما طال الامر حتى تتحرر أوكرانيا".

هذا الانقسام والتطرف في المواقف بين أطراف النزاع المباشرة وغير المباشرة امتد الى المنظمات والمنتديات الدولية، كالأمم المتحدة سواء داخل مجلس الامن الدولي، ام في الجمعية العامة، وبرز بوضوح في قرار الجمعية الأخير غير الملزم الذي طالب روسيا بالانسحاب من أوكرانيا والصادر يوم الخميس 23 شباط-فبراير الماضي، اذ صوتت له 141 دولة، وامتنعت عن التصويت 32 دولة من ضمنها الصين والهند، فيما صوتت ضده 7 دول. كما تجده في اجتماعات مجموعة العشرين، في جميع اجتماعاتها بعد اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، لاسيما في اجتماعها الأخير في مدينة بنغالور الهندية في 25 شباط –فبراير الماضي حيث عجزت القوى المشاركة في المجموعة عن الاتفاق على بيان مشترك، فضلا على عدم توصلها لتوصيف محدد للحرب، بسبب تشنج المواقف بين الأطراف الداعمة لموسكو والأطراف الداعمة لأوكرانيا، لذا انتهى الاجتماع بملخص حول مجرياته قدمته الهند بصفتها دولة مضيفة.

فضلا عن الانقسام الدولي الذي سيستمر ويتفاقم في المستقبل القريب، فان هذا الصراع بعد عامه الأول اطلق العنان لزيادة المخاطر في العلاقات الدولية، فعندما تعجز القوى الدولية الرئيسة عن التفاهم والجلوس على طاولة الحوار والتفاهم، وتضرب عرض الحائط سيادة الدول والمواثيق الدولية، وتتخذ القوة المجردة سبيلا لتحقيق مصالحها، فإنها تنذر العالم بفقدان القدرة على التحكم بمسار الاحداث واحتمال خروجها عن السيطرة لسبب أو آخر، كما تفتح شهية الدول كبيرها وصغيرها لتكون اكثر جرأة واقداما على استعمال العنف والقوة لتحقيق مصالحها، ولذا فان ما يجري في أوكرانيا سيتكرر في مناطق أخرى من العالم اعتمادا على ما ستؤول اليه نتيجة هذا الصراع.

وما يزيد من خطورة الامر هو ان العالم لأول مرة منذ الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي بات أقرب من أي وقت مضى الى اندلاع حرب نووية حقيقية، بل قد تكون سيناريوهات اللجوء الى هذا الخيار اكثر ترجيحا اليوم مما كانت في السابق، لاسيما مع بروز التلويح باستعمال الأسلحة النووية عند الضرورة في حسم هذا الصراع منذ البداية، خاصة لدى القادة الروس، الذين اظهروا استعدادا كبيرا للجوء الى هذا الخيار في حال عدم تحقيق أهدافهم، وهذا ما أشار اليه مؤخرا ألكسندر ميدفيديف الرئيس السابق ونائب رئيس مجلس الامن الروسي، عندما قال: "اعداؤنا...لا يريدون أن يفهموا أن أهدافهم ستنتهي بالتأكيد بفشل ذريع، خسارة للجميع، انهيار، نهاية العالم. ستنسى لقرون كيف كانت حياتك في السابق حتى تتوقف الأنقاض عن إطلاق الاشعاع".

ان حجم الانقسام والمخاطر التي ولدتها الحرب بين روسيا واوكرانيا ناجم عن كون اهداف الأطراف المتورطة فيها لا تنحصر باستعادة دونباس وتغيير القيادة في أوكرانيا، كما تعلنها موسكو، ولا بالانسحاب الروسي وحماية سيادة كييف، كما تصرح بها واشنطن وحلفائها، بل الصراع ابعد من الحدود الجغرافية لأوكرانيا وحتى اوروبا، انه صراع حول تغيير النظام الدولي السائد وإعادة ترتيب قيادته وفقا لقواعد وتوازنات جديدة، وهو صراع بين شكلين مختلفين من القيم والقيادات والطموحات والسياسات، وكل منهما وصل الى درجة عالية من القناعة بانه لم يعد يطيق او غير مستعد للتنازل عن الوضع الدولي القائم، وان مصالحه تقتضي فرض التغيير او منعه ولو باستعمال القوة المجردة.

وهكذا نمط من الصراعات يحولها الى صراعات صفرية او قريبة من الصفرية، اذ تكون أطرافها شديدة التطرف في مواقفها، ولديها حساسية عالية في التعامل مع خصومها تصل الى درجة الشيطنة والارتياب الكامل، لذا تصور الامر على انه أكبر من مجرد صراع مصالح متغيرة، بل هو أقرب الى صراع وجود، أي أما نحن وأما هم، لذا تحكم تصرفاتهم قاعدة نكون أو لا نكون، وهذا ما ظهر للعيان في خطابي الرئيسين بوتين وبايدن المذكورين في أعلاه.

وعليه، يبدو ان العلاقات الدولية ماضية نحو مرحلة جديدة سمتها الأساسية عدم الاستقرار والاقتراب او ربما السقوط في الهاوية، وسيزيدها خطورة اقترانها بمخاطر أخرى كالتطرف المناخي، وعدم اليقين المرتبط بوضع الاقتصاد العالمي، وزيادة السكان وسوء الادارة وما ينتج عنهما من مشاكل تتعلق بالصحة، والتعليم، والفقر، والبطالة، وعدم الرضا عن السياسات الحكومية، وتنامي الاتجاهات الشعبوية واليمينية المتطرفة، وغيرها.

ومع هذه المؤشرات لا يحمل مستقبل البشرية في السنوات القادمة الكثير من الاخبار المفرحة، بل على العكس ينذر بكوارث محتملة عديدة. وفي مثل هذه الأوضاع تكون الحاجة ماسة الى الحكمة والتعقل وابداء المرونة والتنازل في المواقف، مع الاستعداد للبحث عن تسويات وحلول وسط للمشاكل والأزمات والصراعات، ولكن قد تكون هذه الحاجات عزيزة للغاية في المرحلة القادمة ما لم يتغير مستوى الوعي والادراك لدى البشر حكاما ومحكومين.

التعليقات