بدعوة كريمة من الدكتور عقيل الخزعلي محافظ كربلاء السابق ، قام الأستاذ المساعد الدكتور خالد عليوي العرداوي مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية مساء يوم الاثنين الموافق 23- 7- 2013 بإلقاء محاضرة عن ( الاعتدال السياسي في القرآن ) ، وذلك في جامع الإمام الحسن عليه السلام ، وقد سبق بدأ المحاضرة قراءة أي من الذكر الحكيم ثم حديث مختصر لتفسير مفردتي الزوج والمرأة والغاية من ورودهما في كتاب الله العزيز ، بعد ذلك اعتلى المنصة الدكتور العرداوي وألقى محاضرته التي جاء فيها:
أيها الأخوة يشهد مطلع القرن الحادي والعشرين تصاعد وتنامي مشاعر التدين لعموم المجتمعات الإنسانية ، لما توفره الأديان من شعور جمعي رابط بين أبناء الدين الواحد ، تدل على ذلك مظاهر التململ والانشقاق الثقافي على أسس دينية في مختلف مناطق العالم في الوقت الحاضر، إذ صار الاحتماء بالأديان اليوم دليلا على الاحتجاج الإنساني على الظلم والفساد وامتهان كرامة الإنسان ، ومحفزا للتغيير وقلب الواقع لما هو أفضل ، وهذه الظاهرة سوف يتسع مداها وتتصاعد تأثيراتها في المستقبل القريب والمتوسط والبعيد ، بل ويمكنها أن تشكل ظاهرة تثري العلاقات الإنسانية ، عندما تأخذ صورا تسودها قيم التعقل وقبول الحوار البناء ونزعة بناء الوحدة الإنسانية المشتركة ، أو تكون ظاهرة مدمرة تعصف بها صراعات دموية شديدة الخطورة تهز الوجدان الإنساني ، عندما تسودها القيم البربرية المتطرفة والثقافات البدائية الجاهلة .
إن عالمنا الإسلامي مشمول بهذه الظاهرة ، بل يكاد يكون في قلبها ، والمحفز الأكبر لها ، وهذا ما بينته الوقائع والأحداث منذ نكبة حزيران عام 1967 ، وقد اخذ الأمر تيارا متصاعدا بعد سقوط نظام البعث عام 2003 ، جاءت نتائج ما يسمى بثورات الربيع العربي منذ عام 2011 لتؤكده بقوة . وقد أفرزت الساحات السياسية في البلدان الإسلامية قوى سياسية إسلامية متصارعة ، تشير منحنيات الصراع بينها إلى أنها بدأت تخيف وتفزع الشعوب الإسلامية من احتمالات سيطرتها على السلطة لتطبيق رؤاها ونظرياتها السياسية للدين وتهديدها لمستقبل السلم والأمن الأهلي في بلدان شديدة التنوع والتعقيد في تركيبتها الاجتماعية وموروثاتها التاريخية ونظرياتها السياسية .
وفي مثل هذه الظروف تبرز الحاجة الشرعية والعقلية ، لتطمين الناس على حاضرهم ومستقبلهم من خلال تصدي أصحاب الشأن من أهل الحل والعقد في الأمة ، للدفاع عن الإسلام بوجه كل التخرصات والافتراءات التي حاول ويحاول أن يلصقها به أصحاب الغرض السيئ ، ولتعرية المعتدين على حرمته باسم الدين أفرادا وجماعات وقوى سياسية . وتقتضي ظروف الصراع الإقليمي والعالمي أن يقدم الخطاب الديني إلى الناس بشكل يهدأ النفوس ويؤلف القلوب ، ويوحد الشتات ، ويعالج مشكلات الحياة الحديثة ، ويفضح الممارسات السياسية الفاسدة ، وعليه إذا كانت السياسة والسلطة وما يرتبط بهما يمثل أس المفاسد في عالمنا الإسلامي المعاصر ، فاعتقد أن الدفاع عن هذا الدين العظيم يجب أن يكون في هذا الميدان ، لذا جاء البحث في الاعتدال السياسي في القرآن .
إخوتي الأعزاء ، إن الاعتدال كما يقال هو من أمهات الفضائل ، وان الله سبحانه وتعالى كما يقول المرحوم محمد جواد مغنية " جعل دين المسلمين معتدلا في العقيدة والأخلاق ، أما العقيدة فلا شرك فيها ولا الحاد ، بل توحيد ، وأما الأخلاق فلا مادية فقط ، ولا روحية فقط ، بل من هذه وتلك بشرط التعادل والتكامل " ، ويقول سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم مخاطبا قارون على لسان قومه : " وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين " ( سورة القصص : 77 ) ، فإذا كان الاعتدال سمة هذا الدين العظيم ، وصفة الإنسان المسلم صحيح الإيمان ، فانه على أهميته لم يحظ بالاهتمام اللازم في الفتوى والتأليف وإبراز المرتكزات والأسس الفكرية والشرعية في مكتبتنا العراقية ، أما خارج العراق فكانت الدراسات في الموضوع قليلة ومحدودة التأثير ، لكنها على قلتها ركزت على الاعتدال بشكل عام ، ولم تعر الاعتدال السياسي اهتماما واضحا . نعم إن الاعتدال في إطاره العام مهم جدا ، لذا تجدون أن المولى عز وجل يهذب أهل هذا الدين ، ويوجههم في اتجاه منهج الاعتدال ، سواء الاعتدال في المأكل والمشرب حيث يقول سبحانه وتعالى " وكلوا واشربوا ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين " ، أو في الإنفاق كما في قوله تعالى : " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما " ، أو في العبادة كما في قوله تعالى : " يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا " ، أو إشباع الشهوات والغرائز كما في قوله تعالى : " فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة .. " ، أو في المشي والكلام كما في قوله تعالى : " واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير " ( سورة لقمان : 19 ) . ولكن الاعتدال في هذه الجوانب على أهميته لا ننشغل به في بحثنا ، إنما ننشغل بالبحث في الاعتدال في ميدان السياسة ، حيث الأطماع والاختلافات والمغريات تكون على أشدها ، فإذا كان المولى عز وجل يحض على الاعتدال في المطعم ، والإنفاق والعبادة ، وإشباع الشهوة ، وطريقة المشي والكلام ، فانه من باب أولى ومما يتصف به الحكيم المتعالي من حكمة وإدراك لمصلحة خلقه أن يكون الحض والتأكيد على الاعتدال في ميدان السياسة اوجب وأكثر إلزاما ، فماذا نقصد بالاعتدال السياسي في القرآن ؟ .
يحتاج المرء لمعرفة الاعتدال السياسي إلى معرفة ما هو المقصود بمفردتي الاعتدال والسياسة ، فالاعتدال مصدر مشتق من العدل ، والعدل ما قام في النفوس انه مستقيما ، وهو خلاف الجور والظلم والعدوان ، وينطوي الاعتدال على معنى التوازن والوسطية وعدم الإفراط ( التطرف ) من جهة وعدم التفريط ( الانحلال والتضييع ) من جهة أخرى، أما السياسة فمشتقة من الفعل ساس ، وتعني الرياسة ، وهي في معناها الضيق تشير إلى ترويض الإنسان لدابته منعا لجماحها أو نفسه بتهذيبها وحملها على مكارم الأخلاق والأفعال ، أما في معناها الواسع فهي فعل إنساني يشمل المجتمع بمجمله ، من خلال قيادته وإدارته والتولي عليه وتنظيمه ، لذا قيل عن السياسة بأنها علم إدارة الدولة أو فن ممارسة النشاط السياسي لتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، وللسياسة فهمان :
الأول ينطلق من كونها فعلا إصلاحيا يرتكز على معناها اللفظي الذي يشير إلى أنها تعني القيام على الأمر بما يصلحه ، وعلى هذا الفهم تأسس الاعتدال السياسي في القرآن .
والثاني ينبثق من فكرة كونها نشاطا ميكافيليا مراوغا ينطوي عل الحيلة والخداع والغاية تبرر الوسيلة ، وعلى هذا الفهم تأسست أنظمة الجور والاستبداد والدكتاتورية عبر التاريخ .
{img_2}
وعلى أساس الفهم الأول ، نجد أن السياسة في القرآن تهدف إلى بناء الحياة المحمودة للبشر على سطح الأرض ، لتكون ممهدة لحياة أخروية سعيدة ، فالحياة الدنيا مزرعة الآخرة كما ورد في الأثر ، وان ما يفتح الآفاق رحبة لتحقيق هذا الهدف هو اعتماد منهج الاعتدال السياسي الذي يقوم حسب فهمنـا للقـرآن علـى ركنـين :
الأول : الاستقامة ، بمعنى توحيد الله ، ورؤية قدرته تعالى ، وربوبيته في الطبيعة وخيراتها ، وتمكين الإنسان منها بتزويده بالقدرات العقلية والجسدية المناسبة ، ومراعاة التوازن ، والاتزان ، والعدل في الأخذ من الدنيا والاستمتاع بها ، فضلا عن الرفق ، والتسامح ، والعفو ، والمعرفة ، وقبول الآخر .. والابتعاد عن الطغيان والبغي والعدوان .
الثاني : الوسطية والشهادة ، فالوسطية تعني الخيرية والأفضلية ، فالوسط من القوم سيدهم وأفضلهم ، لذا ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله قوله : " خير الأمور أوسطها " وقوله : " عليكم بالنمط الأوسط " ، فدين الإسلام هو دين الاعتدال لما ينطوي عليه من خير وعدل عقيدة وأخلاقا ، ولا تعني الوسطية الوقوف بين الخير والشر أو بين الله عز وجل والشيطان عليه اللعنة ، بل تعني الوقوف دائما وأبدا مع الحق تبارك وتعالى ومع الخير ضد الباطل والشر بأي صورة كانا ، لذا تجد المولى عز وجل في كتابه الكريم يقول " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين " ( سورة القصص : 83 ) ، وهذه الوسطية أهلت الأمة لتكون شاهدة على الأمم ، ويكون الرسول شاهدا عليها ، لذا يقترن قوله تعالى " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " بقوله تعالى : " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله .."
من خلال ما تقدم ، يمكن فهم الاعتدال السياسي في القرآن على أنه : المنهج السياسي الإسلامي الذي يكون مرتكزا على الاستقامة والوسطية والشهادة في الدين والدنيا ، ومعتمدا النزعة الإصلاحية في القيادة ، والحكم ، والإدارة ، بعيدا عن الغلو والتطرف من جهة ، وعن الابتذال والتقصير من جهة أخرى ، ويهدف إلى بناء نظام حكم صالح يؤهل المسلمين ليكونوا الأمة الأكثر خيرية وسموا بين الأمم .
وعند قراءة النص القرآني بصورة إجمالية ، نجد أن التعامل مع المواقف والأفكار المختلفة التي تكون السياسة ميدانها الرحب ينطوي على منهجين :
المنهج الأول: منهج الفضيلة ، والسمو ، واللين ، والتحاور البناء ، والتسامح ، والمحبة والإصلاح ،الذي يمثله المولى عز وجل ، ثم عباده الصالحون من الأنبياء والمرسلين والحكماء والصالحين ( الأمثلة على ذلك : قصة خلق الإنسان والحوار المهم الذي دار بين الخالق عز وجل والشيطان عليه اللعنة ، قصة إبراهيم مع قومه ، قصة موسى مع فرعون ، قصة نوح مع قومه ، قصة صالح مع قومه ، قصة لوط مع قومه ، نبوة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام والخطاب الأخلاقي الرفيع الذي انطوت عليه ) .
المنهج الثاني: منهج التكبر ، والرذيلة ، والتسافل ، والطغيان ، والغلو ، والإسراف والتطرف ، الذي يمثله الشيطان ، والطغاة من أعداء الرسل ، واليهود عندما تبنوا العقائد المنحرفة وعارضوا منهج الحق ، والمشركون ، وغيرهم .
لذا ، يجد الباحث في القرآن أن خطابه يعبر عن إدانة شديدة لكل متطرف مغالي ، ومتكبر جبار لا يقبل قول الحق ، ولا ينصاع إليه ، ويثير في الأرض الفساد والانحلال والفوضى . وفي الوقت الذي يحث فيه هذا الخطاب على الاستقامة التي تعني توحيد الله ، والعمل وفقا لأوامره ونواهيه ، فأن لهذه الاستقامة مظاهر منها :
1- اعتماد العقل السليم ، والمعرفة ، واللين ، والرحمة ، والموعظة الحسنة في دعوة الناس إلى طريق الحق ، كما في قوله تعالى : " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن .. " وقولـه تعالـى : " فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر .. ".
2- أداء الأمانة ، واعتماد العدل ، كأساس للقيادة والحكم والإدارة وقد أشارت إلى ذلك آيات كثيرة .
3- ثقافة الحوار ، كبديل لثقافة الغلو والتطرف .
بناءا على ما تقدم ، يكون الاعتدال السياسي هو أساس العمل السياسي في الإسلام ، وإذا كان القرآن الكريم قد وضح ذلك بصراحة في أحكامه وقصصه ، ومواعظه وعبره ، فأن منهج الاعتدال السياسي هو ما عمل به الرسول صلى الله عليه وآله ، وأهل بيته الكرام عليهم السلام ، وصالح الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم ، وهو الذي نحتاج إلى استحضاره بقوة في حياتنا السياسية لعالمنا الإسلامي المعاصر لتطمين الناس ، ورفع كل تهديد يمكن أن تتعرض له حقوقهم وحرياتهم إذا حكمت دولهم قواعد وأحكام الدين الصحيح .