مسار العلاقات الروسية – التركية بين أزمات الماضي وآفاق المستقبل

     على الرغم من العداء التاريخي الذي استمر قروناً عدة بين روسيا القيصرية والدولة العثمانية، والتوتر السياسي بين وارثيهما الاتحاد السوفيتي والجمهورية التركية في مرحلة الحرب الباردة، فإن روسيا في ظل حكم الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين) وتركيا في ظل حكم رئيس الوزراء التركي ( رجب طيب أردوغان) تمكنتا من تحييد العداء والتوتر في علاقتهما الثنائية، واستطاعتا التعاون معاً تعاوناً عملياً ومثمراً، فقد تغير المنظور التركي للدولة غير الصديقة روسيا السوفيتية، ويبدو أن روسيا مستعدة لبدء العمل مع تركيا من مجرد منظور الدولة التجارية.

   فقد تم تأسيس عالقات الطاقة التركية الروسية لأول مرة في عام1984، ثم تم إضفاء الطابع الرسمي عليها من خلال توقيع اتفاقية شراء في عام 1986، ومنذ ذلك الحين عمدت تركيا إلى تعميق علاقاتها مع روسيا، وعقدت صفقات الغاز الطبيعي في عامي 1997 و 1998 ، ثم قامت موسكو في عام 2005 بمضاعفة جهودها لتنويع شبكة خطوط الأنابيب التي تصل إلى أوروبا، وقللت من اعتمادها على أوكرانيا؛ فجاء القرار بعد عقدين من النزاعات حول السرقة، فضلاً عن الخلاف الجاد حول السعر الذي بلغ ذروته لدى شركة غازبروم ؛ الأمر الذي أدّى إلى قطع الإمدادات عن أوكرانيا في الأول من كانون الثاني عام 2006، ثم في عام 2014 تم عقد اتفاقية خط غاز(ترك ستريم)،  وتهدف الاتفاقيات إلى توفير الغاز للسوق التركية؛ ، وإن تركيا مستعدة للاستفادة من مشروعي نورد ستريم 2 وترك ستريم على الرغم من كون خطوط الأنابيب تعمل لصالح منافسيها بحكم غايتها في توريد السوق الأوروبية، إذ إن هدف أنقرة فيما يتعلق بروسيا، هو زيادة أهمية تركيا كدولة عبور، وهي سياسة تهيّئ أيضاً للتعاون المستمر مع البلدان المعنية بممر الغاز الجنوبي ، غير أن ذلك يأتي على حساب تنويع الموردين وسيؤدي إلى زيادة الاعتماد التركي على الغاز الطبيعي الروسي، ويدعو اقتراح ترك سرتيم إلى بناء أربعة خطوط أنابيب، الأول منها يحمل (15.75) مليار متر مكعب من الغاز إلى سوق إسطنبول، وسيحل خط الأنابيب الأول محل الغاز الروسي الذي يتم شحنه حالياً عبر أوكرانيا ورومانيا وبلغاريا إلى منطقة تراقيا، ومن المتوقع أيضاً أن يتم بناء خط الأنابيب الثاني، إلا أن النمو الاقتصادي البطيء في تركيا قد يعني أن خطوط الأنابيب الثالثة والرابعة لن يتم بناؤها أبداً؛ والنتيجة هي أن روسيا يمكن أن تعمق سيطرتها على السوق الأوروبية من خلال تصدير الغاز عبر تركيا إلى إيطاليا، أو من خلال نورد ستريم ، لذا تُظهر تصرفات أنقرة إزاء طاقة موسكو نمطاً واضحاً من المشاركة مع روسيا في المسائل المتعلقة بالطاقة، ولها انعكاسات على المناقشات الأوروبية حول العقوبات ، إلا أن هذه المناقشات لا يبدو أن لها تأثيراً حاسماً على اتخاذ القرار التركي؛ إذ إن تصرفات أنقرة تؤكد على الأهمية التي تعلقها البلاد على الطاقة الروسية، ويمكن أن تتبع الفوائد الاقتصادية المحتملة التي تعمق هذه العلاقة، حتى حينما تؤدي تلك القرارات إلى تعميق الاعتماد التركي على الطاقة الروسية.

    وفي أواخر شهر تشرين الثاني عام 2015 ، أسقطت القوات الجوية التركية قاذفة روسية من طرازسوخوي 24  بعد أن دخلت في المجال الجوي التركي في أثناء قصف جماعات المتمردين المدعومين من تركيا؛ فأدّى هذا الحادث إلى خلق توتر سياسي بين البلدين، إذ تعد حادثة إسقاط تركيا للطائرة الحربية الروسية حادثة خطيرة للغاية فلأول مرة منذ أكثر من 60 عاماً هي عمر حلف الناتو يتم إسقاط طائرة عسكرية روسية، فطوال هذه العقود لم تجرؤ أي دولة في الحلف على هذه الخطوة، إلا أن تركيا بفعلتها هذه ِوفي وقت لم تكن الأحوال تحتاج إلى مزيد من التسخين فهي ملتهبة بفعل تعقيد المشهد السياسي والعسكري وتصاعد حدة العمليات الإرهابية التي تجاوزت منطقة الشرق الأوسط وذهبت بعيداً لتضرب العمق الأوروبي في باريس وتهدد مختلف العواصم الأوروبية، لاسيّما أن أغلب التصريحات الرسمية والاعلامية المتبادلة بين طرفي الأزمة (روسيا تركيا) التي أعقبت إسقاط الطائرة قد تعطي مؤشرات بخصوص ما سيحدث في المستقبل القريب سواء بين الطرفين المباشرين للأزمة أم الأطراف غير المباشرة ، أو الأطراف التي سوف تتحمل نفقات الأزمة وتتحول أراضيها إلى ساحة لتصفية الحسابات وتبادل الضربات بين طرفي الأزمة، إذ جاءت العقوبات الروسية  ضد أنقرة متدرجة وبأخف الأضرار على موسكو بدءاً من قرار بوتين تعليق السفر بدون تأشيرة بين روسيا وتركيا من طرف واحد،  فضلاً عن منع الشركات السياحية تنظيم الرحلات إلى تركيا وتشديد الرقابة على شركات الشحن التركية الناشطة في روسيا والناقلات البحرية التركية في البحر الأسود؛  لذلك نجد أن فرض روسيا لعقوبات اقتصادية إدى إلى تحول في مسار العلاقات بين البلدين، إذ ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان عازم على اتخاذ رد حازم ضد تركيا، ويتضح ذلك في رفضه مقابلة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وقبلها رفض الرد على مكالمته الهاتفية، إلا أن قامت الحكومة التركية بإيقاف تصعيد التوتر مع روسيا في حزيران 2016 ، حينما اعتذر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لنظيره الروسي فلاديمير بوتين؛ مما أدى إلى تخفيف القيود الروسية على السفر إلى تركيا، وساعد على تسهيل العملية العسكرية عبر الحدود التركية في درع سورية- الفرات، وسرّعَ من المناقشات حول الطاقة.

 ومع ذلك يمكن القول أن ثمة أربعة سيناريوهات محتملة للعلاقات بين البلدين وهي:-

1- سيناريو التصعيد:-

ويقوم هذا السيناريو على احتمال استمرار الاشتباكات بين الطرفين طالما روسيا استمرت في استهداف مواقع للتركمان وفصائل من المعارضة تعدها تركيا حليفة، وهذا يدفع إلى توقعات عسكرية لا يمكن التنبؤ بها، أما على الجانب  السياسي فيمكن أن يتم اتخاذ اجراءات من قبل أي طرف تضرب مصالح الطرف الآخر مثل اغلاق مضيق البسفور في وجه السفن الروسية.

2- سيناريو تجميد الصراع:-

ويقوم هذا السيناريو على اقتصار الطرفين على الخطاب السياسي الحاد دون اتخاذ أفعال تؤدي لتفاقم الوضع تحديداً من جهة روسيا التي يمكنها ان توقف سير طائراتها على الحدود التركية – الروسية وأن تقوم تركيا من جانبها بوقف دعم التركمان في العراق وغلق الحدود أمام عناصر تنظيم داعش.

3- سيناريو التهدئة:-

الذي يمكن أن يتحقق من خلال وساطة دول مثل كازاخستان وأذربيجان بحكم موقعها العربي من طرفي الأزمة ومعها يتم رفع العقوبات تدريجياً وعودة العلاقات الدبلوماسية والعسكرية ولكن يجب لنجاح هذا السيناريو أن تجد تركيا صيغة أخرى غير التأسف والاعتذار فقط لحل الأزمات.

4- سيناريو استعادة العلاقات:-

ويتم هذا السيناريو عن طريق عقد اجتماع بين بوتين واردوغان يتم بعدها الاعلان عن رفع العقوبات مع التأكيد على التعاون بين الطرفين في سورية عسكرياً وسياسياً ، إلا أنه يلزم في مثل هذا الحال أن توجد ثقة متبادلة بين طرفي الأزمة من جهة وبين روسيا وحلف الناتو من جهة وهو أمر مستبعد حالياً من وجهة نظر الباحثة.

    انطلاقاً لما تقدم يمكن القول أن الرد الروسي في الأزمات المتكررة بين البلدين كان مركزاً على الجانب الاقتصادي، وذلك بالنظر الى أن حجم العلاقات الاقتصادية بين البلدين ضخم ويصل إلى ما يقارب الـ(90) مليار دولار سنويا،ً لاسيّما أن روسيا تعتمد بشكل كبير على تركيا في مسألة تصدير الغاز.

التعليقات