هل يمكن تأجيل الاصلاح المالي في العراق؟

قلصت الموجة الثانية من تفشي فيروس كورونا من فرص تعافي اسعار النفط وفقا لتوقعات اوبك ومنظمة الطاقة العالمية. وبقيت توقعات متوسط سعر البرميل النفطي تتأرجح حول معدل 40 دولار للبرميل خلال العام الحالي، وقد يرتفع هذا المعدل الى قرابة 45 دولار للبرميل عام 2021. ازاء ذلك يواجه الاقتصاد العراقي ضغوط مالية حادة تتمثل في اتساع الفجوة بين جانبي النفقات العامة والايرادات العامة، فوفقا لبيانات وزارة المالية فان اجمالي النفقات العامة المخمنة للعام 2020 بلغت قرابة 148 ترليون دينار منها 113 ترليون دينار نفقات جارية و35 ترليون نفقات استثمارية. في حين لا تتجاوز الايرادات العامة المخمنة 67 ترليون دينار، 58 ترليون دينار منها ايرادات نفطية (وفقا لتخمينات سعر برميل النفط 40$) والمتبقي (9 ترليون) ايرادات غير نفطية. وبذلك يتضح ان مقدار العجز المخطط يقدر بقرابة 81 ترليون دينار. ويعني ذلك بان الايرادات النفطية لا تغطي حتى النفقات الجارية، بل ان مقدار رواتب الموظفين والمتقاعدين قد يتجاوز الايرادات النفطية المتحققة حتى نهاية العام 2020. 

اما توقعات وزارة المالية لموازنة العام 2021 والمبنية على موازنة العام 2020 فلا تقل خطورة، اذ يقدر اجمالي النفقات العامة 153 ترليون دينار منها 118 ترليون دينار نفقات جارية و35 ترليون دينار نفقات استثمارية. في حين تم تخمين الايرادات العامة بـ 81 ترليون دينار منها 71 ترليون ايرادات نفطية (وفقا لتخمينات سعر برميل النفط 50$) والمتبقي 9 ترليون ايرادات غير نفطية. وبذلك يكون العجز المخطط في موازنة العام 2021 المقترحة قرابة 72 ترليون دينار على افتراض ارتفاع اسعار النفط الى 50 دولار. 

وحتى الان تم تمويل العجز المالي الحكومي عبر مزيج من الديون الداخلية والخارجية، علما ان تراكم تلك الديون يزيد من النفقات العامة المستقبلية نظرا لتضمينها اقساط الديون والفوائد والتي فاقت في موازنة العام 2019 حاجز 10 ترليون دينار حين كانت اسعار النفط تتأرجح حول معدل 70 دولار للبرميل. 

تركيب الدين العام العراقي

يتكون الدين الحكومي من مزيج من الديون الخارجية والداخلية وكما يلي:

اولا: ديون خارجية ضمن اتفاقية نادي باريس

تبلغ ديون العراق الخارجية 25 مليار دولار اغلبها سيادية واجبة الدفع خلال الاعوام 2020-2028، وهي من بقايا تسوية ديون نادي باريس مضافا اليها ديون تحققت عام 2016 بسبب ازمة انهيار اسعار النفط والحرب على داعش، مقدمة من مجموعة السبعة الكبار والصين واقتراض من سوق راس المال.

ثانيا: ديون سيادية خارج اتفاقية نادي باريس.

هنالك ديون سيادية لمجموعة دول من خارج اتفاقية نادي باريس 2004 وتخضع لشروط الاتفاق مع النادي وتظهر برقم اجمالي قبل الشطب وتعود للأعوام ما قبل 1990 ما يقتضي شطبها بنسبة 80% فأكثر إذا كان الدين صحيح وحساباته وفق معتقدات نادي باريس، وتعاد جدولة بقايا الدين ومنها: اربعة دول خليجية (السعودية والكويت وقطر والامارات) وثمانية دول مثل بولندا والبرازيل وتركيا وغيرها. ويقدر اجمالي تلك الديون من دون الشطب الى قرابة 43 مليار دولار.

ثالثا: ديون داخلية

بالرغم مما تقدم فان الجانب الاكبر من الدين الحكومي والبالغ قرابة 60 مليار دولار هو (الدين الداخلي سواء نقدا او لقاء كفالة بدفع الدين من قبل وزارة المالية). وهذا الدين بين وزارة المالية والجهاز المصرفي الحكومي حصرا (رافدين، رشيد، المصرف العراقي للتجارة، البنك المركزي العراقي). وربما قد جرى سحب قروض دولية كانت تنتظر دورها في عام 2020 كالتزامات او تعهدات سابقة وهي مازالت تحت السحب سواء من اليابان او المانيا وغيرها ولمصلحة بعض المشاريع الاستثمارية المتعهد بتمويلها وقدرها ربما 6 مليارات دولار عام 2020، لذا سيبلغ المجموع الكلي للديون (الداخلية والخارجية) قرابة 134.4 مليار دولار.

وإذا ما تمت المصادقة على مشروع قانون تمويل العجز المالي الحكومي القاضي باقتراض (41) ترليون دينار لتمويل النفقات العامة الجارية والاستثمارية خلال الشهور الاربع الاخيرة من العام 2020 فان ذلك المبلغ سيضاف الى الدين العام المتراكم، مما يعني اضافة قرابة (35) مليار دولار ليكون اجمالي الدين العام مع نهاية العام 2020 قرابة 170 مليار دولار، اي قرابة 90% من الناتج المحلي الاجمالي لعام 2020. 

مخاطر تفاقم الديون الحكومية

الاقتراض العام أحد اهم ادوات الحقيبة المالية المستخدمة في معالجة الازمات الاقتصادية في مختلف بلدان العالم، وغالبا ما يتم الركون الى سياسة التمويل بالعجز لغرض تحفيز الطلب الكلي وادامة زخم النشاط الاقتصادي من خلال تبني سياسة مالية توسعية مضادة لاتجاه الدورة الاقتصادية. مع ذلك، لا تشجع تجارب البلدان النامية الاستمرار طويلا في اتباع سياسة الاقتراض لتمويل العجز خوفا من الادمان الحكومي على الاقتراض واتساع حجم النفقات الحكومية خارج حدود الامكانية المالية. وفي العراق، ورغم ما وفره الاقتراض الداخلي والخارجي من جسور تمويل ساعدت الحكومة في العام (2014-2016) في عبور الازمة المالية الحادة، الا ان الوضع مختلف تماما في الوقت الراهن، فقد شهد الانفاق على الرواتب نموا بنحو (60%) بين عامي 2014 و2020 إذ ارتفع اجمالي الرواتب من 40 ترليون دينار الى ما يقدر بـ 62 ترليون دينار. من جانب اخر لم يشهد الطلب على النفط عام 2014 هبوطا حادا كما شهده العام 2020 (قرابة 16 مليون برميل شهر نيسان) نتيجة جائحة كورونا، مما يضعف فرص تعافي الاسعار لمعدلاتها ما قبل جائحة كورونا. 

ما سبق من ارقام يعطي وفرة من الاسباب الداعية الى ضرورة التعجيل بالإصلاح المالي والتعايش ضمن المقدرة المالية الوطنية، والابتعاد عن ترحيل الازمات المالية والاقتصادية ومعالجة التحديات الاقتصادية الراهنة بشكل منهجي ومخطط وعبر توقيتات زمنية محددة، خصوصا مع انحسار افاق انتعاش اسواق النفط في الامد القريب. ان تقليص الاعتماد على النفط وتعظيم الايرادات غير النفطية وضبط الانفاق العام لن يحقق التوازن المالي في الموازنة العامة فحسب وانما سيمتد ايضا لتحقيق الاستقرار الاقتصادي في مختلف القطاعات الاقتصادية ومنع تسلل الصدمات الخارجية الى الاقتصاد الوطني عبر قناة الايرادات النفطية. كما ان كبح شهية الاقتراض العام والحد من تفاقم الديون الحكومية لن يحقق الاستدامة المالية للعراق فحسب وانما سيوفر رخاء ومستقبلا امنا للأجيال القادمة بدلا من اغراقهم في اقساط وفوائد الديون السيادية. 

التعليقات