الانسجام الاقتصادي كفيل بالتقدم الاقتصادي - العراق أنموذجاً

كما إن الديمقراطية ليس اداءة للحكم فحسب وإنما هي نظام حياة تبدأ بالفرد مروراً بالأسرة والمجتمع وتنتهي بالدولة، كذلك الأمر بالنسبة للاقتصاد ليس نظام اقتصادي فحسب بل يتطلب أن يكون منسجماً مع روح المجتمع وثقافته لضمان تحريكه وتفاعله وتفجير طاقاته وتوجيهها بما يحقق التقدم الاقتصادي.

صعوبة التقدم الاقتصادي مع غياب الانسجام الاقتصادي

تلعب العوامل الذاتية والموضوعية دوراً كبيراً في نجاح وفشل أي نظام في الحياة ومن بينها النظام الاقتصادي، حيث تتعلق العوامل الذاتية بذات النظام من حيث تصميمه وآلية عمله ومدخلاته ومخرجاته، وتشمل العوامل الموضوعية البيئة المراد تطبيق النظام الاقتصادي فيها أي هل هي بيئة تنسجم وتتفاعل مع هذا النظام المُراد تطبيقه أم إنها لا تنسجم معه ولا تتفاعل معه؟

هناك صعوبة بالغة في تحقيق تقدم اقتصادي في حال توفر العوامل الذاتية في نظام اقتصادي معين من حيث التصميم وآلية العمل والمدخلات والمخرجات، دون توفر العوامل الموضوعية لهذا النظام والمتمثلة في بيئة البلد من حيث ثقافة مجتمعه وتاريخه ومعتقداته، أي هل هي بيئة مُنسجمة وقادرة على التفاعل مع هذا النظام أم لا؟ والعكس صحيح، أي هناك صعوبة في تحقيق تقدم اقتصادي في حال توفر العوامل الموضوعية مع غياب العوامل الذاتية المتمثلة في تصميم النظام الاقتصادي. ولا يمكن تحقيق أي تقدم اقتصادي في حال غيابهما معاً.

خيارا الانسجام الاقتصادي

ولتحقيق الانسجام الاقتصادي بين العوامل الذاتية والموضوعية من أجل تحقيق التقدم الاقتصادي يمكن القول هناك خياران، هما العمل على إيجاد العوامل الموضوعية من خلال تغيير ثقافة المجتمع لتنسجم مع النظام الاقتصادي المُراد تطبيقه أو العمل على إيجاد العوامل الذاتية المتمثلة في قوة تصميم النظام الاقتصادي القادر على استيعاب المجتمع بثقافته وتاريخه ومعتقداته لضمان تحريكه وتفاعله وتعبئة طاقاته بالاتجاه الذي يخدم التقدم الاقتصادي.

 وبما إن المجتمع هو الأساس والاقتصاد هو علم اجتماعي يدرس كيفية إشباع الحاجات المتزايدة للمجتمع من خلال الموارد المحدودة من جانب، وإن العمل على تغيير ثقافة المجتمع ينطوي على تكاليف باهظة جداً من جان ثانٍ، أصبح الخيار الأمثل البحث عن نظام اقتصادي يستطيع استيعاب ثقة المجتمع وتفاعله معه وتعبئة جميع طاقاته بما يخدم عملية التقدم الاقتصادي. 

الأنظمة الاقتصادية

 وفي إطار النظام الاقتصادي هناك مجموعة أنظمة يتم تبنيها من قبل الدول لتسير شؤونها الاقتصادية، وهي النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي والنظام المختلط والنظام الإسلامي، ولكن أكثر هذه الأنظمة شيوعاً وتطبيقاً في العالم هو النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي وبدرجات مختلفة حسب طبيعة المجتمع ومدى انسجام النظام معها، ولذا لا يمكن إيعاز التخلف الاقتصادي في بلد ما للنظام الاقتصادي فحسب إذ إن الظروف الموضوعية تعلب دوراً كبيراً في مدى نجاح أو فشل النظام الاقتصادي.

والواقع يشير لقوة العوامل الذاتية التي يتمتع بها  النظام الرأسمالي مقارنة بالنظام الاشتراكي، وذلك بحكم تطبيق الأول في أغلب دول العالم ولا يزال العالم يسير بهذا الاتجاه، لان مبادئه المتمثلة في الحرية الاقتصادية والملكية الخاصة والمنافسة وتحقيق الأرباح؛ أكثر انسجاماً مع الفطرة الإنسانية وهذا الانسجام أكسبه قوة التنافس والبقاء والانتشار، في حين لم يكُن الأمر كذلك بالنسبة للنظام الاشتراكي، إذ لم تتسم عوامله الذاتية من القوة بما يكفي حيث كانت مبادئه، المتمثلة بضعف الحرية الاقتصادية وسيادة المكية العامة وغياب المنافسة وتدخل الدولة؛ لا تنسجم مع الفطرة الإنسانية وهذا ما ثبط معنويات الأفراد المكونين للمجتمع، على العمل والابتكار وحصول الملل والروتين، وكان الضعف والتراجع هو النتيجة الحتمية.

واقع الانسجام الاقتصادي في العراق

ظل العراق يعاني من فقدان الانسجام الاقتصادي، إذ لم يحصل أن تكتمل العوامل الذاتية والموضوعية في آن واحد بما يخدم عملية التقدم الاقتصادي، فقبل سقوط النظام، سياسياً واقتصاديا؛ عام 2003 كان العراق يتبنى النظام الاشتراكي حيث تولت الدولة إدارة الاقتصاد بشكل شامل تقريباً باستثناء بعض المراحل الزمنية التي سمحت خلالها للقطاع الخاص في ممارسة ناشطاً اقتصادياً مُعتداً به، لا نها لم تستطيع تلبية حاجة الاقتصاد لسبب ما كالحصار الاقتصادي مثلاً، لكن الإطار العام كان النظام الاشتراكي هو السائد.

ولأسباب تتعلق بضعف العوامل الذاتية للنظام الاشتراكي التي سبق ذكرها، فضلاً عن سوء التطبيق من قبل السلطة السياسية بل وقيامها بتوظيف الاقتصاد لصالحها بعيداً عن المجتمع، وعدم توفر العوامل الموضوعية التي تنسجم مع النظام الاشتراكي، إذ كان المجتمع العراقي ذو صبغة دينية لم تنسجم مع النظام الاشتراكي، ونظراً لإدارة الاقتصاد من قبل الدولة وفقاً للنظام الاشتراكي، أصبح المجتمع غير مقتنع بالنظام الاقتصادي ولكنه يعمل به لتسيير شؤونه فقط وليس من باب التفاعل والانسجام، هذه العوامل جعلت التقدم الاقتصادي أمر بالغ الصعوبة. 

وتجب الإشارة إلى مسألة غاية في الأهمية كونها أصبحت أحد المعوقات الرئيسة في انعدام توفر العوامل الموضوعية لاستقبال النظام الرأسمالي لاحقاً بعد سقوط النظام عام 2003 وهي التركة التي خلفها النظام الاشتراكي، فعلى الرغم من عدم اقتناع المجتمع بالنظام الاقتصادي السابق إلا إن استمرار تطبيقه لمدة زمنية طويلة أسهم في تركيب وترسيخ ثقافة اشتراكية لدى المجتمع في تسيير شؤونه الاقتصادية دون الاعتماد على ذاته، يمكن تسميتها بـ"ثقافة الاتكالية" وهذه الثقافة تتعارض بشكل صارخ مع المطلوب اجتماعياً من قبل النظام الرأسمالي. 

الانسجام الاقتصادي بعد 2003

وبعد عام 2003 تم تبني النظام الرأسمالي دون أي عمل على إيجاد الانسجام الاقتصادي بين العوامل الذاتية والعوامل الموضوعية لضمان انسيابية التحول الاقتصادي، مما جعل هذا الأخير يعاني التعثر والبطء في مسيرته، فأصبح التقدم الاقتصادي أشبه بالمستحيل ما لم يتم العمل على تحقيق الانسجام ومعالجة التعثر والبطء.

حيث لم يتم العمل على توفير النظام الاقتصادي الذي ينسجم مع المجتمع العراقي كما لم يتم العمل على تغيير ثقافة المجتمع بما ينسجم مع النظام الجديد، ويمكن القول إن العوامل الموضوعية المتمثلة بثقافة المجتمع العراقي كانت أكثر تأثيراً في عدم تحقيق الانسجام الاقتصادي من العوامل الذاتية المتعلقة بالنظام الاقتصادي الجديد إضافة لسوء تطبيق هذا الأخير.

إذ، كما ذكرنا آنفاً، إن المجتمع العراقي ذو ثقافة اشتراكية، بسبب التركة وليس بسبب الطبيعة، وهذه الثقافة لا تنسجم مع متطلبات النظام الرأسمالي من جانب، كما إن إتاحة الحرية بعد 2003 عززت من انتشار الثقافة الدينية التي لا تنسجم مع الأنظمة الوضعية، لان أغلب الفصائل المسلحة خارج إطار القانون هي ذات توجه ديني، من جانب ثانٍ، إضافة لوجود تحسس اجتماعي تاريخي يتعلق بالاحتلال وكل ما يأتي به الغرب لا يمكن الوثوق به ومن بينها النظام الرأسمالي من جانب ثالث، فكان للعوامل الموضوعية أثرها البالغ في عدم تحقيق الانسجام الاقتصادي.

أما بالنسبة للجوانب الذاتية المتعلقة بالنظام الاقتصادي وسوء التطبيق كان له أثره ولكن ليس كما العوامل الموضوعية، حيث لم يتم العمل على إيجاد نظام اقتصادي كفوء يتلائم مع المجتمع العراقي من جانب، ومن جانب ثانٍ تم تطبيق النظام الرأسمالي بشكل خاطئ، بسبب اعتماد التطبيق المفاجئ وليس التدريجي، أي خلال مدة وجيزة انسحبت الدولة من النشاط الاقتصادي دون تهيئة المجتمع والقطاع الخاص على استقبال النظام الجديد والتفاعل معه ليستطيع أن يحل محل الدولة!

وتجدر الإشارة، لتزامن التحول الاقتصادي مع التحول السياسي مع غياب التحول الاجتماعي، فكان التحول مزدوج ومفاجئ من جانب ولم يسبقه تحول اجتماعي يكون قادر على استيعاب التحول السياسي والاقتصادي، وهذا ما عقّد من مسألة التحول الاقتصادي وغياب الانسجام الاقتصادي وعدم تحقق التقدم الاقتصادي أخيراً.

وأخيراً، إن كان العراق يروم تحقيق التقدم الاقتصادي لا بُد من العمل على تحقيق الانسجام الاقتصادي بين العوامل الذاتية والعوامل الموضوعية، وهذا يتطلب دراسة المجتمع العراقي دراسة دقيقة من كافة النواحي ليتم على أثر هذه الدراسة تصميم نظام اقتصادي كفوء قادر على استيعاب المجتمع ويجعله منسجماً ومتفاعلاً ليستطيع تعبئة كل طاقاته بما يخدم عملية التقدم الاقتصادي.

التعليقات