تعثر التحول الاقتصادي في العراق - إشكاليات ومآلات

بشكل عام، إن إدارة أي مجال من مجالات الحياة لا يمكن أن تتم بيسر وسهولة إلا وفق نظام معين تحدد فيه الأهداف والوسائل والإمكانات والجهة المسؤولة عن تحقيق الأهداف المرسومة من خلال الوسائل المحددة والإمكانات المتاحة.

ونظراً لما يشكله الاقتصاد من أهمية كبيرة في معالجة المشكلة الاقتصادية التي تنعكس بشكل سلبي على أغلب مجالات الحياة وعلى كافة المستويات، الفرد والعائلة والدولة والعالم، في ظل عدم معالجتها وبقاء احتياجات الأفراد دون إشباع. أصبحت هناك مجموعة أنظمة اقتصادية يتم تبني أحدها من قبل كل دولة من دول العالم، من أجل حل مشاكلها الاقتصادية وتحقيق أهدافها الاقتصادية، ويعتمد تبنى أحد تلك الأنظمة على طبيعة المجتمع الثقافية والتاريخية والسياسية وغيرها.

ومن أبرز الأنظمة الاقتصادي الشائعة والتي تم تطبيقها على أرض الواقع هي النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي ولابد من الإشارة إلى أبرز معالم كلا النظامين حتى تكون الصورة واضحة عند تناول موضوع التحول الاقتصادي تباعاً.

ومن أبرز معالم النظام الاشتراكي

1- الملكية العامة، حيث تملك الدولة وسائل الإنتاج اللازمة للنشاط الاقتصادي ولا يحق للأفراد امتلاك إلا بعض الوسائل المحدودة كالمساكن والأدوات المنزلية والسلع الاستهلاكية.

2- تدخل الدولة، أي إن الدولة هي المحرك الرئيس للاقتصاد وتقوم بممارسة النشاط الاقتصادي بشكل مباشر لتحقيق أهداف الاقتصاد الاشتراكي.

3- التخطيط المركزي أي يقوم التخطيط المركزي بوضع خطة اقتصادية شاملة لجميع المتغيرات الاقتصادية لتعبئة جميع الموارد وبما يحقق أهداف المجتمع الاشتراكي.

4- تقليص التفاوت الطبقي من أجل تقليص التفاوت الطبقي يتم اللجوء إلى آلية توزيع المتمثلة بمبدأ "من كل حسب طاقته ولكلٍ حسب عمله".

أبرز معالم النظام الرأسمالي

1- الملكية الخاصة، حيث يحق للفرد امتلاك ما يشاء من وسائل الإنتاج وتكون ملكيته محترمة من قبل المجتمع ومصونة من قبل الدولة بحمايتها من أي اعتداء. 

2- حياد الدولة، أي إن الدولة لا تتدخل في النشاط الاقتصادي ويقتصر دورها في مجالات محدودة وان القطاع الخاص هو المحرك الرئيس للاقتصاد.  

3- السوق والمنافسة، حيث يتنافس المنتجون فيما بينهم على تقديم المنتجات وان المنتج الأكفاء والأرخص هو الذي سيثبت جدارته في السوق.

4- الربح، أي إن الدافع وراء ممارسة النشاط الاقتصادي ويدفع المنتجين إلى الإنتاج هو الربح الذي يعد العنصر الأساس لزيادة الإنتاج في النظام الرأسمالي.

وبعد إن تم إيضاح معالم كلا النظامين فإن صورة التحول الاقتصادي ستكون واضحة من خلال تبني معالم النظام الرأسمالي والتخلي عن معالم النظام الاشتراكي آنفة الذكر.

التحول الاقتصادي في العراق

إن ما رافق عملية التحول السياسي التي حصلت عام 2003 عملية التحول الاقتصادي من النظام الاشتراكي إلى النظام الرأسمالي، ولكن في حقيقة الأمر إن هذا التحول لم يكُن جوهرياً بل كان شكلياً وخير دليل على شكلية التحول هو 

1- ملكية الدولة لوسائل الإنتاج واهما الأرض وثرواتها، حيث تملك ما يزيد عن ٨٠ % من الأراضي وان المتبقي منها ٢٠ % مملوكة من قبل الأهالي ومعظمها من الأراضي السكنية. 

2- كما إنها لاتزال تمارس دور كبير في النشاط الاقتصادي بفعل هيمنتها على القطاع النفطي الذي يشكل أكثر من 56 % في الناتج المحلي وأكثر من 90% في المالية العامة والتجارة الخارجية. حسب هيئة الاستثمار الوطنية.

3- امتلاك الكثير من المصانع وتوقفها عن العمل واستمرار دفع الرواتب لموظفيها وخير ما يدل على ذلك هو ارتفاع النفقات الجارية وبالخصوص تعويضات الموظفين التي تتجاوز 43% من الإنفاق الجاري كما في موازنة 2019.

4- لاتزال مساهمة القطاع العام في التكوين الرأسمالي أكبر من القطاع الخاص، حيث بلغت مساهمته بحدود 65.3% مقابل 34.7% للقطاع الخاص عام 2015، حسب هيئة الاستثمار الوطنية.

هناك العديد من الإشكاليات التي رافقت عملية التحول الاقتصادي وجعلتها تصبح شكلية يمكن الإشارة إلى أبرزها بالآتي:

التحول المزدوج، والمفاجئ

 حيث تم إجراء التحول السياسي والاقتصادي في حزمة واحدة، وهذا ما يعني ضخامة الجرعة التي تلقاها المجتمع العراقي فلم يستقبلها بانسيابية ولم ينسجم معها. كما تم أجراء التحول المزدوج بشكل مفاجئ وليس تدريجي الذي من شانه إن يسهم في تفتيت الآثار وتوزيعها عبر الزمن. وعليه فالتحول المزدوج والمفاجئ أسهما في تعثر التحول الاقتصادي.

غياب التحول الاجتماعي، 

إن إجراء التحول السياسي والاقتصادي دون العمل على تحقيق التحول الاجتماعي أولاً أسهم في تعثر التحول المزدوج لان كلا النظامين السياسي والاقتصادي قائمان على التحول الاجتماعي بالدرجة الأساس، فكان المفترض بدايةً تثقيف المجتمع بثقافة النظام الديمقراطي واقتصاد السوق ثم إجراء التحول السياسي والاقتصادي.

ضعف المؤسسات،

ان ضعف المؤسسات وغياب دورها أسهم في تعثر التحول الاقتصادي والدليل على ذلك هو تذبذب الاستقرار العام واحتلال العراق المرتبة الأولى عام 2017 في مؤشر الإرهاب العالمي الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام، الناجم عن انتشار الفساد في أغلب مفاصل الدولة حتى احتل المرتبة 168 من اصل 180 دولة في عام 2018 في مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، وسوء المناخ الاستثماري حتى احتل العراق المرتبة 171 من اصل 190دولة في مؤشر سهولة أداء الأعمال الصادر عن البنك الدولي.

ويمكن القول بهذا الصدد، إن خطأ عملية التحول الذي حصل عام ٢٠٠٣ كان نتيجة لغياب دولة المؤسسات، لأنه في حال وجود المؤسسات ورسوخها وارتفاع كفاءة أداءها سيتم عتق المؤسسات وقراراتها من أهواء وأمزجة الأشخاص الذين يكونون محل اتخاذ القرار وتحقيق ما هو مطلوب فعلاً.

تخلف الجهاز المصرفي،

فعلى الرغم من وجود عدد كبير من المصارف الأهلية العاملة في العراق، إلا إن حجمها ونشاطها محدودين مقارنة مع المصارف الحكومية، وذلك لحداثة المصارف الأهلية من جانب وانخفاض الوعي المصرفي لدى الجمهور بأهميته الجهاز المصرفي والآثار الإيجابية التي يتركها من جانب ثانٍ وعدم ثقة الجمهور بالجهاز المصرفي من جانب ثالث.

وما انخفاض الشمول المالي المتمثل في انخفاض الكثافة المصرفية المتمثل في 44 ألف نسمة لكل مصرف وانخفاض نسبة الانتشار المصرفي التي شكلت 2.2% (بمعنى 3 فروع لكل 100 ألف نسمة) وانخفاض ملكية الحسابات المصرفية لدى الأفراد التي بلغت 11% فقط عام 2017 إلا دليل على تخلف الجهاز المصرفي في تأدية وظيفته الأساسية المتمثلة في تعبئة المدخرات وإقراضها للمستثمرين في القطاع الخاص بدلاً من اكتنازها في البيوت أو هجرتها نحو الخارج.

أبرز مآلات تعثر التحول الاقتصادي 

قاد تعثر التحول الاقتصادي في العراق لمجموعة مآلات يمكن تحديد أبرزها بالاتي:

1- تفاقم البطالة، تعددت النسب بخصوص معدل البطالة حسب مصادرها ولكنها بشكل عام تتراوح من 10% من قوة العمل حسب تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة إلى 40% حسب صندوق النقد الدولي. 

2- تذبذب النمو الاقتصادي، بما إن العراق لايزال يعتمد على النفط بشكل رئيس مع إهمال التنويع الاقتصادي ظل وسيظل النمو الاقتصادي متذبذباً مع تذبذب أسعار النفط.

3- انخفاض الاحتياطي الأجنبي من 77.8 مليار دولار عام 2013 إلى 39 مليار دولار عام 2018.

4- ضخامة حجم الاكتناز الذي بلغ أكثر من 77% من العملة المصدرة خارج البنك المركزي العراقي، وهذا ما يعني حرمان الاقتصاد العراقي من هذه العملة.

5- هجرة رؤوس الأموال العراقية إلى خارج البلد والتي تقدر بعشرات بل مئات المليارات من الدولارات، كنتيجة لسوء مناخ الاستثمار وشيوع الفساد. 

6- تدهور البنى التحتية بشكل كبير حتى شكلت نسبة محرومية الأسر منها 58% في عام 2010، فكيف ستكون بعد صدمة النفط والإرهاب  عام 2014 بالتزامن مع ارتفاع النمو السكان الذي يقدر من بين أعلى المعدلات عالمياً؟  

7- بلغ حجم الدين الخارجي 67 مليار دولار عام 2016 وبنسبة 49% من حجم الناتج المحلي الإجمالي. حسب وزارة المالية بالاعتماد على صندوق النقد الدولي.

ومن أجل معالجة المآلات الآنفة الذكر وتصحيح التحول الاقتصادي وتسريعه ينبغي الأخذ بعين الاعتبار النقاط أدناه:

أولاً: العمل على تحقيق التحول الاجتماعي وذلك من خلال قيام كافة الجهات ذات العلاقة بالمجتمع بتوعية المجتمع بمدى أهمية النظام الديمقراطي واقتصاد السوق وكيف ينعكس بشكل إيجابي على حياتهم.

ثانياً: محاربة الفساد وبناء مناخ الاستثماري الجاذب للاستثمار الأجنبي والمشجع للاستثمار المحلي وبالخصوص القطاع الخاص، وذلك من خلال تقوية المؤسسات التشريعية والقضائية والرقابية والإعلامية وغيرها.

ثالثاً: تخلي الدولة عن الأراضي التي تمتلكها لصالح القطاع الخاص المحلي وفق معايير الأهلية والكفاءة وتكافؤ الفرص بعيداً عن المحسوبية والمنسوبية والفساد.  

رابعاً: قيام الدولة بدعوة القطاع الخاص للمشاركة في استثمار وتشغيل المصانع المتوقفة عن العمل حتى تسهم في تشجيع القطاع الخاص من جانب وتخفيف الضغط عن الموازنة العامة وتلبية الطلب المحلي وتقليص حجم الاستيراد.

التعليقات