الاحتكار يشوه الاقتصاد - مع إشارة إلى العراق

يُعد الاحتكار من أبرز المشاكل التي يشجبها الاقتصاديون، ويعملون دوماً لمعالجتها ومنع ظهوره سواء على مستوى الملكية أم على مستوى النشاط، وذلك لما يتركه من آثار سلبية كبيرة على الاقتصاد برمته، وان أي اقتصاد في بداية تحوله وخلال المرحلة الانتقالية، خصوصاً إذا كان التحول مفاجئاً، كما هو حال العراق بعد عام 2003، سيتعرض لهذه المشكلة بنسبة معينة.

الهدف؟

يصب الاحتكار في الغالب لمصلحة المنتج على حساب مصلحة المستهلك، لان الاحتكار يعني تصفية المنتجين الآخرين المماثلين، حتى يستطيع التحكم في أسعار منتجاته مثل ما يحلو له، فيما بعد، ليحقق هدفه الرئيس المتمثل في تحقيق الأرباح الاقتصادية، على حساب المستهلك دون مراعاة جودة منتجاته او خدماته، وذلك لغياب المنتجات او الخدمات المنافسة لمنتجاته أو خدماته، سواء كانت من الداخل أو من الخارج.

كيف؟

يتم تحقيق الأرباح الاقتصادية من خلال التحكم في الأسعار عن طريق رفع أسعار منتجاته او خدماته أضعاف ما كانت عليه قبل تصفية المنتجين الذين كانوا منافسين لمنتجاته أو خدماته، حتى يستطيع تعويض المدة السابقة خصوصاً إذا مارس سياسة الإغراق المتمثل في بيع المنتجات او الخدمات أقل من سعر الكلفة أو بسعر الكلفة على أقل تقدير وأقل من أسعار السوق السائدة على أفضل تقدير، وهذا بالطبع، يعتمد على القوة والقدرة لدى الطرفين الراغب بالاحتكار والمنافسين الآخرين.

وفي الغالب أن رفع الأسعار لا يرافقه جودة في النوعية، كونها لاتهم المنتج بقدر ما تهمه الأرباح، وما دام هو المنتج الوحيد المحتكر للسوق، وما دام لا توجد بدائل لمنتجاته أو خدماته، فلديه القدرة والسيطرة على التحكم بأسعار إنتاجه أو خدماته، وهذا ما يدفعه إلى رفع الاسعار حسب ما يراه مناسباً لتحقيق الأرباح المرغوبة، وهذا ما يترك آثاراً سلبية على الاقتصاد والمجتمع.

الآثار؟

يترك الاحتكار الكثير من الآثار السلبية على الاقتصاد والمجتمع، خصوصاً الفئات ذات الدخل المحدود والمتوسط، حيث يسهم في انخفاض كفاءة الاقتصاد، فبدلاً من انتاج السلع والخدمات بأقل التكاليف حين تسود المنافسة، ستهمل مسألة التكاليف ولا مانع من انتاجها بتكاليف ليست منخفضة ويبيعها بأسعار تغطي تكاليف الإنتاج والربح المرغوب ما دام أنه المنتج الوحيد في السوق، وهذا ما يخالف القاعدة الاقتصادية " أكبر انتاج بأقل الكلف"، وهذا ما يعني هناك تبديد في الموارد حين يسود الاحتكار.

أما تأثيره على المجتمع، فإن تطبيق الاحتكار من أجل تحقيق الهدف المرسوم، لابد أن يكون عن طريق رفع الأسعار للمنتجات التي ينتجها أو الخدمات التي يقدمها، المحتكر، وهذا ما يترك أثراً سلبياً على المجتمع وبالتحديد  الفئات محدودة ومتوسطة الدخل، لان ارتفاع الأسعار يعني اقتطاع جزء من قوتها الشرائية، وهذا ما يفضي لنقص إشباع حاجاتها الاساسية، ويدفع هذا النقص إلى انحراف سلوك الافراد في فئة محدودي الدخل وربما متوسطة الدخل، كاللجوء إلى الغش والاحتيال والسرقة...إلخ، وذلك من أجل سد النقص في احتياجاتهم الاساسية، وان اللجوء إلى السلوكيات اللا اخلاقية ستؤثر على المجتمع برمته وانعكاسها على الاقتصاد مرة أخرى. 

ما العلاقة بين الاحتكار والاقتصاد والمجتمع؟

وتجدر الإشارة إلى وجود علاقة طردية بين الاحتكار وتدهور الاقتصاد والمجتمع، فكلما تزداد حدة الاحتكار يزداد حجم النقص في الاحتياجات الأساسية لفئات محدودي ومتوسطي الدخل خصوصاً في البلدان النامية كون هذه الفئات تتسم بالحجم الكبير والانتشار الواسع في هذه البلدان، وسيترجم هذا النقص الى انحراف كمي ونوعي في سلوكيات الأفراد المتضررة من الاحتكار، وهذا ما يؤدي إلى سوء المناخ الاستثماري وانخفاض حجم الاستثمار وزيادة البطالة التي تؤثر على الاقتصاد والمجتمع في آن واحد.  

ان آثار الاحتكار لا تبرز في بداية الأمر لأن المحتكر لا يستطيع ممارسة الاحتكار وفرض سيطرته على السوق بشكل مباشر، حيث يمارس في بداية الأمر سياسة الإغراق ولمدة معينة تكون مرهونة بمدى القدرة التي يتمتع بها، فكلما تكون قدرته كبيرة تكون مدة ممارسة الإغراق أقل والعكس صحيح كلما تكون صغيرة تكون المدة أكبر، ومن ثم تطبيق الاحتكار لتحقيق هدفه المنشود المذكور آنفاً.

لماذا يظهر الاحتكار؟

هناك أسباب عديدة وراء ظهور الاحتكار، يمكن الإشارة لأبرزها وأهمها، وهي غياب الرؤيا الكونية وضعف الجانب الاخلاقي والانساني لدى المحتكر، ويرى أن أهمية المادة فوق كل شيء، فهو يسعى لتحقيقها بشتى الوسائل حتى لو كانت غير مشروعة، دون الاهتمام بالآثار المترتبة على احتكاره، بمعنى آخر أن المحتكر ينظر للمادة والربح الاقتصادي هو هدف بحد ذاته ويستخدم الإنسان كوسيلة دون الأخذ بعين الاعتبار كرامته الانسانية، ولذا هو يسعى دوماً لتعظيم ثروته المادية على حساب الآخرين عن طريق الاحتكار.

سبب آخر وهو غياب دور الدولة في الاقتصاد المتمثل في منع الاحتكار وضمان وجود المنافسة واستمرارها، فالمنتج الذي يملك القدرة والامكانية لتصفية المنتجين الممثلين له سيستغل فرصة غياب دور الدولة وضعف مؤسساتها، ويعمل التوسع في استثماراته غير مُهتم بالآثار السلبية التي يتركها على المنتجين الآخرين من خلال تصفيتهم في الأمد القصير والامد المتوسط فضلاً عن الأمد الطويل، وهذا ما سيضُر ال اقتصاد مستقبلاً.

الاحتكار في العراق 

من الملاحظ أن الاقتصاد العراق يعاني من هيمنة الدولة واحتكارها للعناصر الاقتصادية واهمها الموارد المالية المتمثلة في الموارد النفطية دون توظيفها بالاتجاه الصحيح الذي يخدم الاقتصاد العراقي، وسيطرتها على ما نسبته أكثر من 80 من80% من الأراضي فيما يملك الأهالي 20%. أن احتكار الدولة للموارد النفطية والأراضي فضلاً عن الكثير من الشركات والمشاريع المتوقفة عن العمل مع استمرار دفع التكاليف المتغيرة، أسهم في عدم ظهور المنافسة واثقال كاهل الموازنة العامة من جانب وتبديد موارد النفط من جانب آخر كونها تذهب للجانب الاستهلاكي وليس الاستثماري حيث يصل الإنفاق الاستهلاكي إلى 70% كتوسط على حساب الإنفاق الاستثماري الذي لايتجاوز 30%من الإنفاق العام.

بالإضافة إلى ذلك، غياب دور الدولة في توفير المناخ الاستثماري الملائم والمشجع على الاستثمار وما يدلل على ذلك احتلال العراق المرتبة 168 من أصل 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد العالمي عام 2018. ان تردي المناخ الاستثماري كنتيجة لضعف الدولة ومؤسساتها سيشجع المنتجين المحليين خصوصاً من لديهم ثقل ووزن في المجتمع لاعتبارات دينية أو عشائرية أو سياسية أو غيرها، على تصفية المنتجين المماثلين -وبهذا الخصوص سنفرد مقالاً اكثر تركيزاً لاحقاً -وربما سيفرح المجتمع في بداية الأمر! لكنه سيحزن في نهاية الأمر، لجهله بالوعي الاقتصادي وعدم إدراكه لأهمية استمرار المنافسة وكيفية انعكاسها بشكل إيجابي على حياته الاقتصادية ولا يدرك مدى خطورة الاحتكار وانعكاسه السلبي على حياته الاقتصادية.

إن أهم ما يميز المنافسة عن الاحتكار هو اتصافها بانخفاض الأسعار وجودة النوعية، ولا يمكن تحقيق هاتين الصفتين إلا بتوافر عناصر المنافسة المتمثلة بحرية الدخول والخروج للبائعين والمشترين من وإلى السوق، وجود عدد كبير من البائعين والمشترين، تجانس وحدات السلعة أو الخدمة، توفر معلومات كاملة عن أحوال السوق، ولذا فإن أي اقتصاد يُراد له أن يكون اقتصاداً قوياً، لابد أن يتصف بالمنافسة وينهي الاحتكار. 

التعليقات